آراء وتحليلات
أميركا المهندس الأكبر للدور الجيوستراتيجي التوسعي لتركيا
صوفيا ـ جورج حداد
لا شك أن العلامة المميزة الأولى لحرب اكتوبرتشرين الاول 1973 كانت، كما وصفتها غالبية المحللين الموضوعيين، "حرب تحريك"، مكنت النظام المصري بقيادة أنور السادات من الخروج من حالة اللاسلم واللاحرب، والتقدم نحو اقرار "السلام" مع كيان العدو، مقابل انسحابه من شرقي القناة ومن سيناء المحتلة.
ولكن من زاوية نظر معينة، يمكن أيضًا اعتبار أن حرب اكتوبر 1973 مثلت نقطة تحول في الجيوستراتيجية الاميركية المطبقة في "الشرق الاوسط الكبير" (حسب التوصيف الاميركي للاقليم).
فحتى ذلك التاريخ كانت الجيوستراتيجية الأميركية المطبقة في المنطقة تتمحور حول الدعم المطلق لـ"اسرائيل"، أولًا في سياستها التوسعية جغرافيا، وثانيًا كي تكون أقوى قوة عسكرية في المنطقة، قادرة على سحق جميع الجيوش العربية مجتمعة. ولهذه الغاية كانت جميع الامكانيات المعلوماتية (الاقمار الصناعية وغيرها) والمالية واللوجستية والعسكرية، الاميركية، موضوعة في خدمة الدولة والجيش "الاسرائيليين".
ومؤخرًا، سربت معلومات الى الصحافة الاميركية تفيد أنه عشية حرب اكتوبر 1973 تمت اتصالات سرية بين السادات ووزير الخارجية الاميركية السابق هنري كيسنجر، حيث اتفق الطرفان على أن لا تقوم القيادة الاميركية بابلاغ الاسرائيليين مسبقا عن حشودات الجيش المصري، كي يتمكن من مفاجأة خط "الدفاع" الاسرائيلي على الضفة الشرقية للقناة وتحقيق اختراق محدود، لاظهار السادات بأنه "بطل الحرب" ("بطل العبور" و"بطل التحرير"، وتمكينه بهذه الهالة من العبور الى "السلام" مع "اسرائيل" بصفته "بطل السلام" ايضا.
ويبدو أن المخابرات العسكرية الاميركية كانت موقنة أن "المفاجأة" المصرية لن تمثل أكثر من "عملية ازعاج محدودة" للجيش "الاسرائيلي" القوي، القادر على استيعاب المفاجأة وتجاوزها بسرعة بفضل المساعدة الأميركية الأكيدة. ولكن التطورات الميدانية على الأرض بددت هذا الافتراض. فالجيش المصري اخترق بشدة خطوط الدفاع والمواقع الاسرائيلية. وكذلك الجيش السوري في مرتفعات الجولان المحتل. ولولا المساعدة المعلوماتية واللوجستية والعسكرية السريعة والكثيفة التي تلقاها الجيش الاسرائيلي من اميركا، لكانت هزيمة "الجيش الذي لا يقهر" احتمالا كبيرا جدا.
وقد استنتجت القيادة الأميركية من ذلك أن
وتشير الدلائل أنه انطلاقًا من هذا المعطى الجديد الذي ظهرت بوادره بوضوح في حرب تشرين الاولاكتوبر 1973، قررت القيادة الاميركية إجراء تعديلين جوهريين في الجيوستراتيجية الاميركية المطبقة في "الشرق الاوسط الكبير"، وهما:
أولًا ـ وبدون التخلي عن دعم السياسة العدوانية التوسعية ـ التفوقية لـ"اسرائيل"، ـ العمل لنقل نقطة الارتكاز في الصراع العربي ـ الاسرائيلي نحو السعي المحموم لانتزاع شرعية وجود "اسرائيل"، عن طريق السعي لتظهير الاعتراف العلني لانظمة سايكس ـ بيكو العربية، بـ"اسرائيل"، ومن ثم تحقيق "السلام" بين تلك الانظمة وكيان العدو، وان كان ذلك "بثمن" تقديم بعض التنازلات والتسهيلات و"المساعدات" للانظمة السايكس ـ بيكوية التي ترضى بركوب قطار "السلام الاسرائيلي". وقد دشن هذا التعديل الجيوستراتيجي الاميركي في توقيع "اتفاقية كامب دايفيد" في 1979، التي اخرجت النظام المصري من حلبة الصراع مع الكيان الاسرائيلي، مقابل انسحاب العدو من سيناء، واستعادة مصر لمكامن النفط والغاز فيها، واعادة تشغيل قناة السويس.
و
والتعديل الجيوستراتيجي الاميركي الثاني في المنطقة هو ـ وبدون التخلي عن الدور الاقليمي المركزي لـ"اسرائيل" في المنطقة، بوصفها الركيزة الرئيسية للامبريالية الاميركية ـ اليهودية، ـ التوجه أكثر للاعتماد على العامل الاسلامي وخصوصا على دور تركيا في تطبيق الجيوستراتيجية الاميركية المعادية للشيوعية وللحركة التحررية لشعوب المنطقة. وبعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران، وفشل القضاء عليها في الحرب الظالمة العراقية ـ الايرانية في 1980 ـ 1988، ترسخ بشدة التوجه الجيوستراتيجي الاميركي للاعتماد على تركيا كقوة اقليمية كبرى يجري تأهيلها للوقوف بوجه محور المقاومة بقيادة ايران الثورية، وهو ما لا تستطيعه لا "اسرائيل" ولا أنظمة الخيانة الخليجية، معًا.
وعلى خلفية التوجه الجيوستراتيجي الاميركي الجديد، قام الجيش التركي في تموز 1974 بغزو شمالي جزيرة قبرص، بحجة منع توحيد الجزيرة مع اليونان وحماية الاقلية التركية في شمالي الجزيرة، وكانت تمثل نسبة 18% من السكان. وقد تغلب الغزاة الاتراك بسرعة على الجيش القبرصي الصغير والضعيف، واحتلوا 35% من اراضي الجزيرة، اي ضعف نسبة عدد السكان الأتراك القبارصة وهو 18%، ونظموا "حمام دم" حقيقيا ضد القبارصة اليونانيين (قطع الرؤوس وقتل النساء والاطفال الخ، تماما على الطريقة "الداعشية" فيما بعد) وطردوا اكثر من 160 الف قبرصي يوناني من شمالي الجزيرة، الذين فروا الى الجنوب. ومنذ ذلك التاريخ تحولت منطقة الاحتلال التركي في شمالي الجزيرة الى "منطقة ادارة ذاتية" استوطن فيها عشرات ألوف المواطنين الأتراك. وفي عام 1983 تم اعلان منطقة الاحتلال التركي بوصفها "جمهورية شمالي قبرص التركية"، التي لم تعترف بها أي دولة في العالم سوى تركيا وحدها. وترتبط هذه "الجمهورية" الآن اقتصاديًا ارتباطًا كليًا بتركيا وتستخدم فيها الليرة التركية، وهي تعيش على المساعدات التركية فقط. ويربط المحللون الموضوعيون عملية احتلال تركيا لشمالي قبرص، مدعومة ضمنيًا من أميركا، بالاكتشاف الاميركي المبكر لمكامن النفط والغاز في شرقي المتوسط.
ومنذ ذلك الحين بدأت عملية تشكيل "الجيش الارهابي العالمي"، وجعل تركيا مركزًا أساسيًا وقياديًا له، مما يتطابق تمامًا مع العقيدة التوسعية "العثمانية الجديدة" لحزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب اردوغان.
وقد اضطلع "الجيش الارهابي العالمي" بدور أولي في تنظيم الحرب "الجهادية" ضد السوفيات في ثمانينيات القرن الماضي. وقد كانت تركيا قاعدة التمركز والانطلاق الرئيسية لهذا الجيش في الغزوة الداعشية لسوريا والعراق سنة 2014 تحت شعارات "الربيع العربي" المشؤوم. وبعد سقوط "الخلافة الداعشية"، قامت القوات النظامية التركية مباشرة بالتوغل في الأراضي السورية والعراقية، ولا تزال هناك، بحجة "حماية الامن القومي التركي". ثم
وفي 18 تشرين الاول 2020 المنصرم، جرت في "جمهورية شمالي قبرص التركية" غير المعترف بها، انتخابات رئاسية، فاز فيها المرشح القومي اليميني ارسين تتار (بنسبة 51،74%)، الذي يدعو الى الاتحاد مع تركيا، على منافسه مصطفى اكينجي الذي يدعو الى اعادة توحيد الجزيرة بأي صيغة يتفق عليها الطرفان اليوناني والقبرصي. ويقول اكينجي إن تركيا تدخلت بشكل فظ جدًا لدعم منافسه تتار، وإنه هو وأفراد عائلته تلقوا تهديدات للانسحاب من الانتخابات. ويقول بعض الخبراء ان القيادة الاردوغانية تخطط لحشد الوف الارهابيين التكفيرييين المرتبطين بها، في شمالي قبرص، ولافتعال مذبحة تركية جديدة ضد القبارصة اليونانيين وطرد غالبيتهم من الجزيرة، وتوسيع الاحتلال التركي للجزيرة، واعلانها أرضًا تابعة للدولة التركية، كما كانت في نهاية القرن التاسع عشر. ومن ثم تحويل الجزيرة الى معسكر حربي تركي كبير، لتطويق اليونان في الشمال، وسوريا ولبنان في الشرق، وفلسطين المحتلة ومصر في الجنوب، والتنسيق الكامل مع الكيان الاسرائيلي لفرض سيطرة اسرائيلية ـ تركية كاملة على شرقي المتوسط، وعملية استخراج النفط والغاز من مكامنه الغنية، واحتكار مد الأنابيب الى أوروبا.
ويحظى هذا المخطط بدعم الدول النفطية الخليجية (وعلى رأسها السعودية) المتهافتة للتطبيع مع كيان العدو، والتي تجد في تحقيق هذا المخطط مدخلًا ليكون لها حصة في اعادة بعث "الخلافة الداعشية"، التي سقطت في سوريا والعراق، بوجه "عثماني جديد"، ومن ثم المشاركة في ريوع استخراج النفط والغاز من شرقي المتوسط.
والجدير بالذكر أن أميركا تحاول أن تضع مسافة هامش بينها وبين تركيا، وأن تضفي على سلوك القيادة الاردوغانية طابعًا من "الاستقلالية" الظاهرية والشكلية والتكتيكية. ولكن جميع القرائن الواقعية تشير الى أن أميركا هي المهندس الأكبر لسيناريو تعظيم الدور الجيوستراتيجي للتوسعية العدوانية "العثمانية الجديدة" لتركيا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024