معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

الأمم المتحدة ووكالاتها أداة للهيمنة الأميركية
02/12/2020

الأمم المتحدة ووكالاتها أداة للهيمنة الأميركية

د. علي مطر

عقب الحرب العالمية الثانية، تأسست منظمة الأمم المتحدة بتاريخ 24 أكتوبر/تشرين الأول 1945 في مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية، تبعاً لمؤتمر دومبارتون أوكس الذي عقد في العاصمة واشنطن. وخرجت الأمم المتحدة، كنتيجة لانتصار "الحلفاء" بزعامة أمريكا، وبالتالي فإنها تمثل انعكاسًا لطبيعة النظام الدولي الذي احتكم به العالم بعد الحرب العالمية.

كانت الأرض التي شيد عليها مبنى الأمم المتحدة منحة من رجل الأعمال الشهير روكفلر، والذي تعد عائلته من أغنى العائلات في مدينة نيويورك والولايات المتحدة ولعل مسألة المكان تعد مسألة رمزية للولايات المتحدة.

ومذاك الوقت تتأثر المنظمة الدولية بالتغيرات التي تطرأ على النظام الدولي طالما كانت هي تمثل انعكاسًا لتوازنات القوى الكبرى، بل إنها أصبحت في كثير من الأحيان مسرحا للصراع الدولي بين القوى الكبرى سواء داخل المنظمة أو خارجها، ومن ثم بدأت تتحول عقب انهيار الاتحاد السوفياتي إلى أداة طيعة لخدمة أهداف الدول المسيطرة والمتفردة في صنع القرار الدولي، مثلما حدث خلال أزمة الخليج وحرب الخليج الثانية 1991م، وهذا جعلها أداة فاعلة للهيمنة الأمريكية على النظام الدولي.

عملت الولايات المتحدة على لتنفيذ برنامجها الخاص لتحقيق أهدافها من إنشاء الأمم المتحدة، فالمتتبع لمسيرة إنشاء المنظمة يدرك أن الأوضاع الدولية غير المستقرة ألقت بظلالها على ميزان القوى الدولية لصالح الولايات المتحدة حيث كان لها الكلمة العليا خلال المشاورات التي جرت لإنشاء المنظمة. كانت رؤية "روزفلت" لمجلس الأمن بمثابة الشكل الجديد الذي يميز المنظمة الجديدة "الأمم المتحدة" عن عصبة الأمم حيث اعتبر أن صلاحيات أعضاء مجلس الأمن وسلطته التقديرية الواسعة تقابل الاعتراف من قبل الدول الكبرى بحق الدول الصغيرة بعضويتها في الجمعية العامة ونيلها الاستقلال والمساواة التامة في التصويت، وقد اختلف تعامل الرؤساء الأميركيين مع المنظمة إلا أن الهدف لم يتغير وهو اعتمادها كأداة للهيمنة الأميركية، وقد أظهرت إدارة ترامب العنجهية الأكبر في التعامل مع المنظمة الدولية.

المال أداة ضغط على الأمم المتحدة

تعد الولايات المتحدة، الأكثر من بين الدول التي تساهم في ميزانية الأمم المتحدة، بنحو خمس الميزانية. ولعل هذا الدعم الأمريكي له أسبابه وأهدافه، والتي تتمثل في مسألة الهيمنة والسيطرة النسبية على منظمات الأمم المتحدة واستخدام ذلك في الضغط على الدول لتحقيق أهداف سياسية. وتعتمد فكرة السيطرة الأمريكية على المنظمات الدولية من خلال مساعدات واشنطن الكبيرة المقدمة لها، ما يعني أن هذه المساعدات مرهونة بمدى موافقة المنظمات الدولية للسياسة الأمريكية، حتى لو كانت مخالفة للقوانين الدولية، أو الأخلاق العالمية التي تدّعيها أمريكا.

وتعد الميزانية الأميركية للأمم المتحدة، أداة للسيطرة على المنظمة، وهذا ما انعكس مع إدارة دونالد ترامب وقبله أوباما وغيرهما من الرؤساء الأميركيين، وقد خص ترامب هيئة الأمم المتحدة والوكالات المتخصصة التابعة لها بقسط كبير من النقد اللاذع، حين انتقد الأمم المتحدة ووصفها بالضعف التام وعدم الكفاءة وقد صرح خلال خطابه في الجمعية العامة في سبتمبر/ايلول 2017م، أنه ليس من العدل أن تتحمل الولايات المتحدة القسط الأكبر (حوالي 22%) من الأعباء المالية للأمم المتحدة.

واتخذ ترامب سلسلة انسحابات وتهديدات متتالية بحق المنظمات الدولية، فقد انسحب من هيئات الأمم المتحدة التي تحكم الصحة وحقوق الإنسان، والاتفاقيات العابرة للقارات ومتعددة الأطراف مثل اتفاقية المناخ، والسيطرة على الأسلحة، وفرض ترمب قيوداً جديدة على الهجرة، ومعارك جمركية مختلفة.

ففي أكتوبر/تشرين الأول 2018 انسحبت إدارة ترمب من معاهدة الخدمة البريدية "أجواء مفتوحة"، وفي أبريل/نيسان 2019 انسحبت أمريكا من معاهدة تجارة الأسلحة الدولية التي تبنتها الأمم المتحدة لإضفاء طابع أخلاقي على التجارة الدولية للأسلحة.

واستمر مسلسل الانسحابات، ففي أغسطس/آب 2019 انسحبت أمريكا رسمياً من معادلة الأسلحة النووية متوسطة المدى متهمة روسيا بخرق الاتفاقية التي نشأت عام 1987، ورد بوتين بتعليق عمل بلاده بالمعاهدة ذاتها، وفي نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه انسحبت الولايات المتحدة الأمريكية رسمياً من اتفاقية باريس لتغير المناخ، واتهم ترامب في وقت سابق علماء المناخ بأنهم ينطلقون من أجندات سياسية، بعد تحذيرهم من مخاطر تجاوز الاحترار.

وكانت أخطر التهديدات والانسحابات الأمريكية وقف إدارة ترمب الاشتراكات المالية الأمريكية في منظمة الصحة العالمية منتصف أبريل/نيسان 2020 في أوج انتشار فيروس كورونا عالمياً.

انسحابات لمصلحة الاحتلال الإسرائيلي

القضية الفلسطينية كانت لها حصة كبيرة من التعامل الأميركي المتعجرف عبر الأمم المتحدة، فقد هددت الولايات المتحدة السلطة الفلسطينية في حال استمرار انضمامها إلى المنظمات الدولية، ويرى المتتبع لسياق الانسحابات أو التهديدات الأمريكية أن جزءاً مهماً منها جاء بصورة مباشرة لمصلحة الاحتلال الإسرائيلي، بدءاً من منظمة "اليونسكو" إلى مجلس حقوق الإنسان، والمحكمة الجنائية الدولية.

ففي أكتوبر/تشرين الأول 2017 قررت أمريكا الانسحاب من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو" انحيازاً لإسرائيل التي تبعتها بالانسحاب، وأوقفت أمريكا مساعداتها المالية للمنظمة، بعد قرار اليونسكو اعتبار مدينة القدس إسلامية.

تجدر الإشارة إلى أن إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما توقفت عام 2011 عن دفع مخصصاتها المالية السنوية التي تمثل 22٪ من ميزانية اليونسكو بعد أن قبلت المنظمة بفلسطين عضواً كامل العضوية فيها.

وفي يونيو/حزيران 2018 انسحبت إدارة ترامب من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، بعد تصويت المجلس لمصلحة إجراء تحقيق في سقوط شهداء مدنيين في قطاع غزة، متهماً إسرائيل بالاستخدام المفرط للقوة، وفي أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه انسحبت إدارة ترامب من بروتوكول اتفاقية فيينا الاختياري لحل النزاعات، بعد تقديم السلطة الفلسطينية طعناً على قرار نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس.

لقد أدى تعامل الإدارات الأميركية السيئ مع الأمم المتحدة، إلى كشف الوجه الحقيقي للولايات المتحدة الأميركية، التي همها الأوحد السيطرة العالمية، خاصةً أنها استخدمت الأمم المتحدة في مرات عدة من أجل سيطرتها، عبر الحصول على قرارات تدخلها إلى مناطق متعددة كالصومال وافغانستان والعراق وغيرها، فكيف إذا كان التعامل السيئ في ظل أزمة كورونا، حيث يقول كريستين لي في Foreign Affairs إن انسحاب الولايات المتحدة من وكالات الأمم المتحدة من دون طرح بدائل واضحة، ستزيد عدائية العالم تجاه القيم والمصالح الأميركية. على أرض الواقع، اتّضح هذا الاحتمال بشكلٍ مقلق في منظمة الصحة العالمية تحديداً.

وتطرح التعاملات السابقة والتهديدات الأمريكية للمنظمات والمعاهدات الدولية تساؤلات مهمة في ظل الأزمات الدولية المعاصرة، أسئلة كثيرة حول الأخلاق والمصالح، إذ كما يظهر فإن التعامل الأميركي هو تعامل لااخلاقي من أجل الهيمنة العالمية.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات