آراء وتحليلات
اختلال التوازن في العالم.. والدور التاريخي للقوى الصاعدة
صوفيا ـ جورج حداد
حتى فترة الحروب بين روما وقرطاجة (264 – 146ق.م) كان لا يزال يسود التوازن في العلاقات الوجودية بين شرقي وغربي المتوسط، وبين الشرق والغرب عموما.
ولكن مع تآكل وأفول نظام المشاعية البدائية القديم (الذي مثلت قرطاجة اخر اشكاله السياسية)، وبداية ظهور وصعود النظام العبودي (الذي جسدته روما القديمة بشكل نموذجي)، اختل تماما التوازن الوجودي القديم للعالم، لتحل محله ظاهرة انقسام العالم الى قسمين رئيسيين متناحرين هما:
ــ غرب "سائد" و"متقدم"، استعماري واستعبادي، يعيش على غزو الشرق واستعباده وإلحاقه ونهب خيراته.
ــ وشرق تابع، مستعمر، مستعبد ومنهوب.
وفي هذا السياق نشير الى حدثين يمثلان تماما طبيعة التحول التاريخي الذي حدث:
ـ أ ـ في 2 آب 216ق.م تمكن القائد الشرقي العظيم هنيبعل بركة من سحق الجيش الروماني في "معركة كاناي" (قرب روما). واصبحت طريقه الى روما مفتوحة. ولكن هنيبعل امتنع عن اقتحام روما واستباحتها ونهبها، لانه كان يمثل المجتمع الشرقي الذي يدين بمبادئ الفيلسوف الاثيني ـ الفينيقي الاصل ـ زينون الفينيقي (334 ـ 263ق.م)، التي كانت تدعو الى جعل الاخلاق نبراسا للحياة البشرية، والى حق العيش الحر لكل انسان ولكل شعب. وهذا ما لم تعد الطبيعة المتحولة للنظام الاجتماعي ـ الاقتصادي تسمح باستمراره.
ـ ب ـ وفي سنة 149ق.م تمكن الجيش الروماني من تطويق قرطاجة بمساعدة الفرسان الامازيغ الذين كانت مصلحتهم في التعاون مع الغزاة الرومان ضد قرطاجة. ولكن الجيش الروماني فشل في اقتحام اسوار قرطاجة الحصينة، ففرض الرومان على قرطاجة حصارا قاسيا مدة ثلاث سنوات (149 ـ 146ق.م). وفي تشرين الاول/أكتوبر من عام 146 تمكنوا من اختراق حصون قرطاجة، وقاموا بمذبحة فظيعة ضد اهاليها الذين قاتلوا ببسالة، فأبادوا 300 الف من سكانها الـ700 الف، وفر بضع عشرات الالوف، اما الباقون فتم اسرهم وبيعهم الى النخاسين اليهود، الذين كانوا دائما يرافقون الجيش الروماني في كل معركة، لشراء الاسرى (بالجملة) ثم ترويضهم وبيعهم عبيدا (بالمفرق). ولمدة 17 يوما بلياليها احرق الرومان قرطاجة بيتا بيتا، ودمروها حجرا حجرا، وحرثوا ارضها ورشوها بالملح حتى تصبح غير صالحة للحياة لمدة طويلة.
وبسقوط قرطاجة سقط خط الدفاع الاول والرئيسي عن الشرق، بوجه التوسع العبودي لروما واستطرادا للغرب. وفي رأينا المتواضع ان سقوط قرطاجة يمثل نقطة تحول مفصلي بين مرحلتين من مراحل التاريخ البشري:
ــ مرحلة التوازن الوجودي للمجتمع البشري العام.
ــ ومرحلة اختلال التوازن الوجودي بين الشرق والغرب.
وبعد سقوط قرطاجة، زحف الرومان نحو مصر وسوريا الطبيعية وتابعوا اضطهاد وابادة واستعباد الشعوب المسيحية الشرقية، من افريقيا الشمالية، الى مصر، الى سوريا الطبيعية، وميزوبوتاميا وشبه الجزيرة العربية، وتوسعهم في اسيا الصغرى والقوقاز والبلقان وسواحل البحر الاسود. ولم يتوقف التوسع الروماني الا على جدار المنطقة الصقيعية التي عرفت فيما بعد باسم روسيا.
وبعد توقف التوسع الروماني على حدود "روسيا"، بدأت مرحلة تدهور وسقوط الامبراطورية الرومانية. ولاحقا تغيرت الممالك والامبراطوريات والدول. ولكن اختلال التوازن الوجودي بين الشرق والغرب ظل قائما حتى عصرنا الراهن، وذلك حتى حينما قامت دول مستقلة ومتقدمة كالامبراطورية العربية ـ الاسلامية. حيث ان الطغمة المالية اليهودية، التي ارتبطت بالغرب منذ ايام الامبراطورية الاستعبادية الرومانية، كانت تمسك بالدورة المالية ـ التجارية في الدولة العربية ـ الاسلامية التي امتدت من الاندلس الى جدار الصين.
ومن زاوية التوازن الوجودي الاقتصادي ـ الحياتي للمجتمع البشري، فطوال كل العهود الماضية، وحتى يومنا الراهن، كانت أنظمة الدول الشرقية، حتى أكثرها استقلالية، عبارة عن "وكلاء" و"جامعي ضرائب" لصالح الهيمنة الغربية، بأشكال مباشرة وغير مباشرة، خصوصًا بواسطة المرابين والتجار اليهود.
وقد أسفرت عملية النهب المتمادي للشرق طوال قرون المرحلة الطويلة المنصرمة، الممتدة من تدمير قرطاجة في القرن الثاني قبل الميلاد، وحتى الحرب العالمية الاولى، في مطلع القرن العشرين، أسفرت عن نتيجتين رئيسيتين:
الاولى ـ تكدس ثروات العالم في الغرب، وازدهاره وتقدمه الملموس على الشرق.
والثانية ـ التمركز الاعظم للثروات في بلدان اوروبا الغربية، التي تحولت الى قطب مركزي للهيمنة الاستعمارية الغربية على الشرق.
وأسفرت الحربان العالميتان الاولى والثانية عن إضعاف اوروبا الغربية، وانتقال قطبية الهيمنة الامبريالية العالمية من اوروبا الغربية الى الولايات المتحدة الاميركية.
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية اتخذت القطبية المركزية للهيمنة العالمية لاميركا شكلين رئيسيين من اشكال التفوق والسيطرة:
الأول ـ هو التفوق العسكري الكاسح لاميركا التي خرجت من الحربين العالميتين سليمة (بسبب بعدها الجغرافي خلف المحيط عن ميادين المعارك)، في حين اصيبت اوروبا كلها، خصوصا، والعالم القديم، عموما، بخسائر بشرية ومادية هائلة. وخرجت اميركا من الحرب العالمية وهي تمتلك السلاح النووي، وجيشا محترفا ومسلحا جيدا مؤلفا من ملايين الجنود والضباط وينتشر في مئات القواعد العسكرية الاميركية في كافة ارجاء العالم، واسطولا بحريا ينتشر في جميع البحار والمحيطات على الكرة الارضية، وحاملات طائرات واسطولا حربيا جويا قادرا على تهديد وضرب اي بقعة في العالم. وامتلكت اميركا ميزانية عسكرية لا مثيل لها في التاريخ تفوق الميزانيات العسكرية لجميع الدول الكبرى التي تليها، مجتمعة.
والثاني ـ هو التفوق المالي ـ التجاري ـ الاقتصادي العالمي. اذ أصبح الاقتصاد الاميركي يفوق اقتصادات جميع دول العالم مجتمعة، ويلعب دور حجر الرحى في الاقتصاد العالمي برمته، ومركز التقاطع للدورة التجارية العالمية والنظام البنكي والمالي العالمي. وقد فرضت اميركا عملتها الورقية (التي هي من دون تغطية ذهبية) على العالم بوصفها العملة الدولية الرئيسية.
ولكن غداة نهاية الحرب العالمية الثانية واجهت الامبريالية الاميركية تحديًا جذريًا بظهور المعسكر الشرقي بقيادة روسيا السوفياتية، وبما فيه الصين الشعبية.
ومع أن روسيا خرجت من الحرب العالمية الثانية بتدمير رهيب، وحملت عبء اعادة اعمار ومساعدة البلدان الاخرى في الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي السابقين؛ ومع أن عدد سكانها هو أقل من نصف عدد سكان أميركا، واقتصادها أقل بأضعاف من الاقتصاد الاميركي؛ فإن روسيا السوفياتية وما بعد السوفياتية ـ وبفضل وطنية واندفاع شعبها الشرقي العظيم، ووطنية وعبقرية وكفاءة علمائها وخبرائها، غير المقيدين بحسابات الربح الرأسمالي ـ استطاعت أن تطور، وتضع في الخدمة، أسلحة نووية وصاروخية وبحرية وجوية، متميزة نوعيًا، وقادرة على تصفير التفوق العسكري الكمي لأميركا، وعلى كسب أي حرب عدوانية شاملة يمكن أن تشنها أميركا، وقادرة على تدمير أميركا والغائها من الخريطة في الساعة الأولى من الحرب. وهذا ما أدركه تمامًا الاستراتيجيون العسكريون الاميركيون. وهو ما منع تنفيذ مخططات الامبريالية الاميركية لتدمير روسيا والصين بالاسلحة النووية، وتجنب أي مواجهة اميركية ـ ناتوية مباشرة ضد روسيا والصين.
ولكن بالطبع ان الامبريالية الاميركية ـ اليهودية لم تتخل للحظة عن أطماعها وعدوانيتها، فاستبدلت استراتيجية حرب المواجهة المباشرة ضد روسيا والصين باستراتيجية الحرب البديلة المتمثلة في الحروب العدوانية الاقليمية، والحروب الهجينة، والحرب الدعائية، وتنظيم الانقلابات و"الثورات الملونة"، وتشكيل واستخدام المنظمات الارهابية الدولية. وفي الحقبة التاريخية الاخيرة تجلى ذلك تماما في "الربيع العربي" المشؤوم، وفي دعم مشروع اقامة "الخلافة الداعشية" قبل سقوطه، وفي دعم مشروع اقامة "تركيا الكبرى الاسلاموية" الجاري تنفيذه بصعوبة في الوقت الحاضر.
أخطر أشكال الحرب البديلة لاميركا هي الحرب المالية ـ التجارية ـ الاقتصادية، التي تعتمد على قدرات الاقتصاد الاميركي الاسطوري، الاضخم في تاريخ البشرية، وهيمنتها على النظام البنكي والمالي العالمي، والقنوات الرئيسية للتجارة العالمية. وتتجلى هذه الحرب الان في العقوبات المالية والاقتصادية الشديدة والحصار الخانق ضد روسيا والصين وايران وسوريا ولبنان وكوريا الشمالية وفينزويلا.
أميركا تدخل الان في مرحلة فقدان تفوقها الاقتصادي. فإلى جانب تحقيق التفوق العسكري النوعي لروسيا على اميركا، تتقدم الصين نحو نزع الهيمنة المالية ـ التجارية ـ الاقتصادية لاميركا على العالم، واحتلال مركز الصدارة العالمية بوصفها اضخم اقتصاد عالمي. وفي العقود القليلة القادمة سيبلغ حجم الاقتصاد الصيني أضعاف حجم الاقتصاد الاميركي، هذا اذا ظلت الولايات المتحدة الاميركية دولة واحدة، ولم تتفكك وتنهر كدولة خلال المرحلة القادمة.
وقد تشكل على الساحة الدولية محور شرقي موضوعي، معاد لأميركا وكتلتها الغربية والموالية للغرب، يتألف من روسيا (المتفوقة عسكريا على اميركا وكل حلفائها مجتمعين) والصين (السائرة بسرعة نحو التفوق الاقتصادي على اميركا وكتلتها الغربية). وقد انضمت ايران الثورة الى المحور الروسي ـ الصيني. وشكل انضمام ايران نقلة نوعية للمحور الشرقي الجديد، لكونها تضطلع حاليًا بالدور المركزي في قيادة حركة التحرر الوطني المعادية للامبريالية والصهيونية في العالم العربي الواسع.
واليوم يعيش العالم مرحلة انعطاف وتحول راديكالي جديد، يتمثل في:
1 ـ نهاية مرحلة اختلال التوازن الوجودي للعالم، وهيمنة الغرب على الشرق، وهي المرحلة التي استمرت اكثر من ألفي سنة منذ تدمير قرطاجة وقتل الرومان واليهود للسيد المسيح.
2 ـ بداية الانتقال نحو مرحلة تاريخية جديدة، تقوم على التحرر من اختلال التوازن الوجودي العالمي الراهن، والتوجه نحو بناء عالم جديد، متوازن وجوديا، متحرر، منسجم، متعاون، متفاعل، مزدهر، تقدمي وتطوري، اي مجتمع انساني حقيقي شامل.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024