آراء وتحليلات
العلاقات التركية - العراقية تحت المجهر.. هل تثمر زيارة الكاظمي لأنقرة؟
بغداد: عادل الجبوري
طيلة عقود من الزمن، لم تشهد العلاقات العراقية - التركية مسارًا ثابتًا ومستقرًا، بل إن حالة المد والجزر، والتجاذب الحاد في بعض الأحيان، والخفيف في أحيان أخرى، كانت هي السائدة والمهيمنة على مجمل واقع علاقات العراق مع جارته الشمالية المثيرة للجدل في مجمل مواقفها وتوجهاتها.
واذا كانت المشاكل والأزمات بين دولة ما مع أخرى قد تكون مجاورة لها أو بعيدة عنها نوعًا ما، تتمحور حول ملفات أمنية، أو اقتصادية، أو سياسية، فإن تشابك وتداخل الملفات المختلفة بين بغداد وأنقرة، كان وما زال يلقي بظلاله الثقيلة على المشهد العام، بل يعرقل حلحلة العقد المستعصية، وفك الخيوط الشائكة.
وتزامنًا مع زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي الى تركيا في هذه الأيام، على رأس وفد حكومي رفيع المستوى مؤلف من وزراء ومستشارين وخبراء باختصاصات متنوعة، تفرض التساؤلات المكررة باستمرار نفسها، باحثة عن اجابات عملية وواقعية ومنطقية من بين طيات هذا الحراك.
وسائل الاعلام العراقية وبعض الأوساط والمحافل السياسية، أبدت اهتمامًا واضحًا لتصريحات أدلى بها قبل أيام قلائل السفير العراقي في أنقرة حسن الجنابي، أشار فيها الى أبرز القضايا التي ستطرح على طاولة النقاش بين الكاظمي والوفد المرافق له من جانب، وكبار المسؤولين الأتراك من جانب آخر، والتي حددها بآليات تأمين الحدود بين البلدين ومنع تسلل الارهابيين والعمليات العسكرية المرتبطة بذلك، وتنشيط وزيادة التبادل التجاري البالغ حاليًا خمسة عشر مليار دولار، وحسم النقاط الخلافية حول تقاسم المياه، وأوضاع الجالية العراقية في تركيا، وسبل تذليل المعوقات والمصاعب في اقامة أفرادها وتنقلهم وسفرهم، سواء كان لغرض الدراسة أو العمل أو السياحة أو الاقامة الدائمة.
لا شك أن السفير الجنابي أشار الى العناوين العامة ولم يخض في التفاصيل والجزئيات، اذ ان هذه الأخيرة يمكن أن تكشف عن عمق المشاكل والأزمات بين الطرفين، وعدم توفر كل الأدوات المطلوبة لحلها وحلحلتها، هذا في حال توفرت الارادات الحقيقية الجادة لذلك، رغم ادراك وقناعة كل من بغداد وأنقرة، بأن المصالح المتبادلة والمشتركة العميقة بينهما تقتضي البحث والسعي الجاد الى تذليل المشاكل والأزمات واحتوائها الى أقصى قدر ممكن.
أمنيًا، يبدو ملف حزب العمال الكردستاني التركي المعارض(PKK)، وكأنه عقدة شائكة ومستعصية وعصية على الحل، وباتت مع مرور الوقت تشكل صداعًا مزمنًا لأكثر من طرف، وعقبة كأداء في طريق كل حوار، فبينما يطالب العراق جارته تركيا بإنهاء تواجدها العسكري على أراضيه، ذلك التواجد الذي توسع وأصبحت له مظاهر دائمة، كما هو الحال مع معسكر زليكان بقضاء بعشيقة جنوب محافظة نينوى، يدعو صناع القرار في أنقرة نظراءهم العراقيين الى اتخاذ الخطوات اللازمة للحؤول دون جعل الاراضي العراقية منطلقًا لشن الاعتداءات على تركيا وتهديد امنها القومي، في اشارة الى تواجد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، وقيامه بعمليات عسكرية تستهدف الجيش التركي والمنشآت الاقتصادية التركية، علما أن حزب العمال كان قد اتخذ منذ وقت طويل من جبال قنديل الواقعة عند المثلث الحدودي العراقي - التركي - الايراني معقلًا رئيسًا لجناحه العسكري، وفيما بعد استغل التجاذبات والخلافات داخل البيت الكردي العراقي، ومن ثم اجتياح تنظيم "داعش" لمساحات من الجغرافية العراقية صيف عام 2014 ليتمدد ويوسع تواجده ونفوذه في عدة مناطق، أبرزها قضاء سنجار التابع لمحافظة نينوى، وهو ما أثار حفيظة أنقرة ودفعها الى تعزيز وجودها العسكري وحتى غير العسكري في شمال العراق.
ويشير خبراء أمنيون الى أن تركيا، اضافة الى معسكر زليكان، تملك منذ عام 1997 قاعدة عسكرية كبيرة في منطقة بامرني -45 كم شمالي محافظة دهوك-، وثلاث قواعد أخرى صغيرة في قضاء العمادية ومنطقتي كانيماسي وسيرسي التابعة لدهوك، ويقدر عدد الجنود الأتراك المتمركزين في الأراضي العراقية حاليًا بأكثر من ثلاثة آلاف جندي.
مضافًا الى ذلك، تقوم أنقرة بين الفينة والأخرى بشن عمليات عسكرية جوية وبرية داخل الاأراضي العراقية، كان آخرها ما سمي بـ"عمليات المخلب"، التي انطلقت منتصف شهر حزيران - يونيو الماضي بحجة ملاحقة عناصر حزب العمال.
ولا شك أن هذا الوضع الأمني المرتبك، لا يمكن القبول به، أيًا تكن الأسباب والمبررات، وطبيعي أنه لا بد أن يكون من بين أولويات برنامج زيارة الكاظمي لأنقرة، لأن مجمل القضايا والملفات الأخرى، سياسية كانت أم اقتصادية، ترتبط بشكل أو بآخر بالملف الأمني وما يفرضه من تداعيات وتفاعلات على الأرض.
ويتفق عدد كبير من الساسة ورجال الاقتصاد والمال، على أن الأرضيات الحقيقية لتعزيز وانتعاش العلاقات العراقية - التركية في الجوانب الاقتصادية والسياسية والثقافية، تتمثل في معالجة الملف الأمني بطريقة مناسبة وواقعية ومرضية للطرفين.
فرغم تشكيل مجلس التعاون الاستراتيجي بين البلدين في عام 2008، وابرام العديد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم في مجالات الأمن والطاقة والاعمار وغيرها، الا أن ذات الاشكاليات بقيت قائمة، في الوقت الذي يزوّد فيه العراق تركيا بحوالي 15% من احتياجاتها النفطية، ويصل حجم المبادلات التجارية بين الجانبين الى خمسة عشر مليار دولار.
والى جانب ملف حزب العمال والتواجد العسكري التركي في شمال العراق، ما زال ملف تقاسم المياه، واستحواذ أنقرة على الجزء الأكبر من مياه نهري دجلة والفرات اللذين ينبعان من أراضيها يزعج العراق كثيرًا، جراء الانعكاسات السلبية على واقع الزراعة فيه، وكذلك النقص الكبير في نسبة موارده وثرواته المائية.
وقبل أشهر حذر النائب في البرلمان العراقي وعضو لجنة الزراعة والمياه والأهوار علي البديري من كارثة صحية وبيئية نتيجة انحسار مياه نهري دجلة والفرات، داعيا الحكومة ووزارة الموارد المائية الى "التحرك الفوري والعاجل على الجانب التركي بغية إعادة إطلاق حصة العراق المائية التي تم قطع الأغلب منها".
وقبل هذا، كانت وزارة الزراعة العراقية قد حذرت من تأثر القطاع الزراعي في البلاد بسبب عدم التوصل إلى حل لأزمة المياه مع الجانب التركي، حيث صرح المتحدث باسم الوزارة حميد النايف "أن مشكلة المياه مع الجانب التركي ليست وليدة اليوم، بل هي منذ سنوات عدة، وان المفاوض العراقي لم يكن موفقا في إبرام الاتفاقيات مع الجانب التركي من أجل تقاسم المياه".
من الواضح أن الاشكاليات والعقد الأمنية والمائية بين بغداد وانقرة، وما يتعلق بها من أمور، لا تخرج عن سياق حسابات ومصالح وتحالفات واصطفافات اقليمية، وحتى دولية، تحكمها وتتحكم بها طبيعة الازمات والملفات السياسية الشائكة في المنطقة، والمواقف العراقية والتركية حيالها.
كل ذلك يفترض أن لا يكون غائًبا أو مغيبًا من مباحثات الكاظمي مع اردوغان وباقي صناع القرار في انقرة. وما لا يختلف عليه اثنان، هو أنه اذا لم تأت أنقرة بشيء جديد، فلن يعود الكاظمي هو الآخر منها بجديد الى بغداد، وربما تكون لقاءاته الخاصة بصديقه القديم رئيس المخابرات التركية هاكان فيدان أكثر جدوى من اجتماعاته مع اردوغان!
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024