معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

نداء البكار.. عن الشعوب التي لا تساوي الصفر
17/12/2020

نداء البكار.. عن الشعوب التي لا تساوي الصفر

أحمد فؤاد

تستدعي لحظات الأزمة، أكثر من غيرها، حديث التاريخ، ليس من باب التلهي بالحكايات أو التعزية بالماضي، لكنها اللحظة الأنسب لكشف جوانب بعض أيام الأمة الأكثر ألقًا وعظمة، في ظل حديث التطبيع السائد والمهيمن، بكل ما فيه من أكاذيب يوشك البعض على قبولها كحقائق راسخة، أو واقع لا مفر من التسليم له.

اللافت في هذه اللحظة العجيبة، أن أغلب النظم العربية تخاصم تطلعات كل الشعوب العربية، التي تعلم يقينًا أنها جزء من أمة واحدة، وإن حلت الأسوار مكان الحدود الطبيعية المتصلة بين دولها.

صاغت القوى المسيطرة، الحاكمة بشرعية السطو المسلح أو القروسطية الخليجية، معادلة مع ترمب ونتنياهو، مفادها أن الشعوب تساوي الصفر، إرادتها غائبة، وصوتها مكتوم، وأمالها محكومة بالموت مقدمًا، وبكل الطرق، ونسيجها الوطني مفتوح للدراسات والتدخل والتجارب الغربية.

هذه الحقيقة الأولى في قصة السباق إلى الأحضان الصهيونية، أنصاف الآلهة يحكمون الأوطان ويحتقرون الشعوب، والدور المنتظر من المجتمعات هو تدبير احتياجات أيامها الصعبة، والتغني بالأناشيد الوطنية الحماسية، والسير بهمة ونشاط إلى حيث يراد أن يكون الانتحار الجماعي، لكن لا تدخل في صنع السياسة أو توجيه الدفة، وهو ما يظهر من هرولة عجيبة إلى الإعلان عن علاقات حرام، يدعونها التطبيع من باب الأدب المصطنع.

التاريخ القريب، قبل البعيد، يوثق أن الشعب هو القائد والمعلم، كما كان يرددها الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر، وأن إيمان أي شعب عربي بقضيته وارتباطه بها يرتفع إلى درجة الجهاد، وحين تكون القضية فلسطين، فإن الأرواح حاضرة جاهزة للفداء.

فلسطين التي تحاول الأنظمة اليوم نفض يديها منها، وكأنها كانت تحارب لأجلها كل لحظة، وتمرر خطابًا زاعقًا يستهدف حصرها في إنها أزمة تهم أهلها أو مشكلة تعني لاجئيها ومخيماتها، هي نضال كل حر، وشرف كل عربي، الشرف بمعناه الشخصي والمجرد تمامًا، هي القضية اليومية والأساس، وستبقى فلسطين في الوجدان الجمعي العربي فوق كل شيء، وقبل أي شيء، وهي المعركة اليومية للمواطن العادي، ترتبط باستقلال بلده، وكرامته ومستقبله.

في قصة النصر على العدوان الثلاثي 56، أو حرب السويس كما تنقلها بعض وسائل الإعلام حرفيًا عن الإنجليزية، والتي يحمل يوم الثالث والعشرين من الشهر الحالي عيدها - الذي نُسى رسميًا - كان التضامن العربي الشعبي هو فاتحة الانتصار، الذي بدا مع أول قذيفة بريطانية ضربًا من الوهم المختلط بالجنون.

في يوم الثاني من تشرين ثان، العام 1956، وبينما كان الشعب المصري يتصدى للعدوان الثلاثي، ومع تقدم حاملات الجنود للإنزال إلى شواطئ المدينة الوادعة بورسعيد، هدر صوت عبد الهادي البكار من الإذاعة السورية "من دمشق هنا القاهرة"، عقب ضرب محطات الإذاعة بالعاصمة المصرية.

في أي ميزان للقوى يبقى تصرف البكار عظيمًا، يصلح للنقش على الجدران والصخر لألف سنة قادمة، لكن هل كان صوت البطل ليوقف الأساطيل أو يدمر الدبابات.. نعم، وبكل تأكيد.

كان البكار هو التعبير الحق، والأوفى، عن أمة وقفت بكاملها تعضد جزءاً منها يتعرض للهجوم بغرض القتل، كانت رسالة البكار باختصار غير مخل: إن العرب يألمون كما تألمون، ويرجون من النصر ما ترجون.

في ظل حرارة الصراع التي انخرطت فيها مصر كلها وقتذاك، والنصر أبعد مما يتمناه أي شخص عاقل، كانت الحقائق على الأرض ترسم صورة مغايرة لمعطيات بداية الحرب، وتستنبت من أتون نضالها المستحيل مجسدًا، صبيًا مصريًا هو البطل السيد عسران، في يوم 12 كانون أول، قتل قائد المخابرات البريطانية في بورسعيد الميجور ويليامز بقنبلة يدوية وضعها في رغيف خبر، انتقامًا لأخيه الأكبر الذي استشهد، ولم يصدق قادة المقاومة الشعبية ما رأته عيونهم، من تخطيط وتنفيذ، ثم انسحاب المنفذ بسلام كامل عقب تحقيق هدفه.

ظلت القوات المعتدية تعاني الأمرين حتى أُجبروا على الخروج من المدينة، التي صارت مقبرة لهم.
حوّل التضامن العربي الصادق والفاعل، مع مصر، من التطلعات إلى واقع ممكن ومتاح، ومنح صدق المشاركة الدفعة اللازمة للأحلام لتصنع حقائق جديدة على الأرض، تصفع العدوان، وتدمي قلبه بشكل يومي ومستمر.

بين استعمار لا يريد أن يذهب، وتحرر يطالب بأثمان باهظة، كانت الشعوب ووحدتها الحقيقة غير القابلة للتأويل أو التزييف، ثم صارت خندق الدفاع الأول والأقدر عن الأوطان.

 كان نداء عبد الهادي البكار، تصرفًا أسطوريًا في شجاعته، ونبيلًا في مقصده، من بطل عربي أدرك أين يقف بالضبط، وما هو دوره تجاه عدو يكاد يعصف بأمته.. ومنحته الذاكرة العربية وجودًا دائمًا في صفحات مجدها وانتصارها، يقفز ملهمًا إلى السماء كأنما قالها بالأمس، كلما أرجف الجبناء وتراجع المنافقون وباع الخونة.

ولم تزل وقفة البكار تستعاد كلما هلّ شهر كانون أول، ذكرى انتصار أمته على أعدائها.

 

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات