معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

جمهورية أميركا الشعبية المسلحة
20/01/2021

جمهورية أميركا الشعبية المسلحة

حسن الزين

   قد يكون عنوان المقال صادمًا للرأي العام والجمهور للوهلة الأولى، وقد يظهر فيه نوع من المبالغة في التوصيف، لكن هذا الشعار هو ما تحلم به وتسعى الى تحقيقه مجموعات وميليشيات اليمين المتطرف في أميركا التي دعمت وصول ترامب الى البيت الأبيض. وهو ما تجلى بعد عملية اقتحام مبنى الكابيتول التي صدمت العالم، ووصفها الرئيس السابق جورج بوش الابن بأنها تجعل من أميركا "إحدى جمهوريات الموز".
 
ويكفي لاتضاح الصورة الاطلاع على التفاصيل العسكرية الصادمة لعملية اقتحام مبنى الكابيتول (الكونغرس) التي كشفتها وسائل الإعلام الأميركية، والتي تضمنت عمليات استطلاع عسكرية لمبنى الكابيتول، وتفخيخ المبنى ومبانٍ تابعة للحزبين الجمهوري والديمقرواطي بالمتفجرات، وتجنيد ضباط في جهاز شرطة المبنى، والتلاعب بولائهم للدولة الفيدرالية، وتخطيطهم " لقتل مايك بينس" نائب الرئيس بعد تأكدهم من رفضه الاعتراض على فوز بايدن، ورفضه العمل على عرقلة تثبيت وتنصيب بايدن في جلسة الكونغرس التي حصلت في 6 كانون الثاني 2020، اضافة الى التخطيط لقتل نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب، وخطف عدد من أعضاء مجلس النواب والشيوخ وأخذهم كرهائن لإٍسقاط عملية تثبيت فوز بايدن.

 ووفق الصحف الأميركية بدأ التخطيط لاقتحام مبنى الكابيتول في واشطن قبل شهرين من الحادث الذي وقع ليلة 6 كانون الثاني 2020، تزامنا مع إعلان وصدور نتائج الانتخابات الرئاسية التي جرت في 3 تشرين الأول 2020 واستبقها ترامب وأنصاره بإعلانهم الفوز بعد اقفال صناديق الاقتراع في 4 كانون الثاني 2020، وظهرت نتائج الولايات والمدن التي تعتمد العد والفرز اليدوي، والتصويت الحضوري، وهو ما تبدل مع بدء فرز الأصوات الإلكترونية. وكان موقع أكسيسوس الأميركي قد كشف سابقاً عن تخطيط ترامب وأنصاره لإعلان الفوز قبل اكتمال فرز التصويت الإلكتروني.

   ورغم أن بايدن رجل "أبيض" الا أن مشكلته مع اليمين المتطرف أنه "كاثوليكي، وليس بروتستانتيا"، وهذه النقطة جوهرية في تفكير أنصار اليمين المتطرف، ففي نظر هؤلاء أن الرئيس يجب أن يكون من صلب رجال البروتستانت، ولديه تزكية ودعم من الكنائس والتيارات الدينية الأنجيلية واسعة النفوذ، والإنجيلية هي "النسخة المُعدلة والنصوصية" للاتجاهات البروتستانتية. وأعادت هذه القضية الإشكالية الجوهرية، ونبشت التاريخ الأميركي، استرجاعاً واستعادة لأحداث مقتل الرئيس "جون كيندي" التي لا تزال ماثلة في الأذهان، فأحد أهم دوافع التحريض على مقتله هو ديانته ومذهبه "الكاثوليكي"، حيث اعتبرت الجماعات البروتستانتية اليمينية أن وصوله يشكل أول كسر لقاعدة الحكم ومذهب الدولة الأميركية من وجهة نظرهم، فهو أول "كاثوليكي روماني" يصل الى كرسي البيت الأبيض، بما تمثله الرئاسة من صمام أمان للهوية الأميركية الفيدرالية الاتحادية وعنصر التماسك للولايات الخمسين المتناقضة.

  بدأت الفجوات تظهر في جدران واشنطن قبل سنوات مع وصول الرئيس باراك أوباما الى البيت الأبيض عام 2009، كأول رئيس من أصول أفريقية يصل الى كرسي الرئاسة، ما أثار حفيظة وحنق البيض البروتستانت والجماعات الإنجيلية واليمينية المتطرفة.

  وزاد من الفجوات توسعاً، حجم الاختلال الهيكلي والعجز المالي في الاقتصاد الأميركي، حيث بلغ الدين العام الأميركي ما يزيد عن 21 ترليون دولار، فيما تراجع الدخل الفردي للمواطن الأميركي، وازداد عدد الأغنياء والأثرياء، وهم قلة قليلة من مالكي الشركات الذين يتحكمون بمفاصل القرار الاقتصادي والسياسي الأميركي، مقابل توسع الفقراء، وارتفاع معدلات البطالة في المدن الصناعية والكبرى التي تقع في ولايات الوسط والغرب والجنوب، أي ولايات الداخل الأميركي حيث تتركز المجتمعات المحافظة وتنشط جماعات البيض والإنجيليين والبروتستانت واليمين المتطرف المؤيدين للحزب الجمهوري ولترامب.  

 إن انفجار هذه الأزمة الهوياتية داخل النظام الأميركي، لم تكن وليدة أحداث الكابيتول، فقد أشار الرئيس السابق جيمي كارتر في مقال له عام 2016 إلى سيطرة الأوليغارشية على الديموقراطية الأميركية، وبداية انحدار النظام الأميركي على وقع أزمة الهوية، متحدثاً لأول مرة من موقعه كرئيس أميركي سابق عن فشل المنظومة السياسية والاقتصادية في الولايات المتحدة، وتحولها إلى حكم الأوليغارشيا (حكم القلة المسيطرة)، مستنداً الى "المال الذي أصبح يلعب دورا متزايداً في الحياة السياسية الأمريكية، ما يجعل من الولايات المتحدة دولة شبيهة بالأوليغارشية وليست بدولة ديمقراطية".

   وقد أثار الفشل الاقتصادي عواقب على الداخل الأميركي، انعكس جدلاً هوياتياً بخلفيات اقتصادية عرقية وإثنية، وبناء على معطيات لها صلة بالجغرافيا الاقتصادية للولايات الأميركية، بين من يطالب بتطبيق النموذج الاقتصادي النيوليبرالي والسياسات الداخلية المحافظة التي ظهرت في شعار أميركا أولاً ومواجهة الخطر الاقتصادي والعسكري الصيني ثانياً، وهو الاتجاه الذي يدعمه الحزب الجمهوري والجماعات اليمينية بصورة خاصة، مقابل دعم الحزب الديموقراطي والتيارات اليسارية والطبقات الوسطى والسود والموالين لليبرالية الكلاسيكية، سياسات التوسع العالمي للاقتصاد الأميركي والسعي لقيادة العالم وعولمة الديمقراطية.

   وقد علق أحد المحللين لأحداث الكابيتول بأن أغلب المجموعات التي اقتحمت الكابيتول هم من مجموعات المزارعين والفلاحين الأميركيين الذين أفقرتهم السياسات الأميركية المضادة التي اتخذتها الصين رداً على الإجراءات الحمائية الأميركية. وهو ما يعكس حجم تأثير وتداخل العامل الاقتصادي وتداخله مع العامل الهوياتي لرسم ملامح المشهد الأميركي الحالي والمستقبلي.

يضاف الى التناقض الاقتصادي، التناقض العنصري، حيث ازداد اليمين تطرفا، وتأسست منظمات للبيض وأهمها "المتفوقون البيض" و"أبناء فخورون"، تطالب بإقصاء السود والملونين وتهميشهم واضطهادهم. ونشأت بالمقابل، منظمات مثل "حياة السود مهمة" أو غالية، كرد فعل على العنصرية البغيضة. وهو ما ظهر في أحداث مقتل الشاب الأميركي من أصول افريقية "جورج فلويد" التي أحدثت زلزالاً وثورة لذوي البشرة الداكنة المضطهدين في الولايات المتحدة.

وبالمقابل، زاد نشاط اليمين المتطرف مع حرب الانتخابات الرئاسية والاستقطاب الحاد الذي حرضت عليه خطابات ترامب العنصرية، وقد وصل الأمر بمكتب التحقيقات الفيدرالي "إف بي آي" إلى تصنيف ناشطي اليمين المتطرف على أنهم التهديد الإرهابي المحلي الأكبر في الولايات المتحدة، وأنهم باتوا عاملًا رئيسيًا وتهديدًا إرهابيًا خطرًا وفقًا لـ"نيويورك تايمز".

وبحسب مؤسستين ترصدان الحركات المسلحة والعنيفة والمتطرفة في الولايات المتحدة، ACLED و MilitiaWatch، فإن هناك أكثر من 80 مليشيا في أنحاء الولايات المتحدة، بينها مليشيات رئيسية أكثر يمينية وتطرفا، أغلبها تدعم الحزب الجمهوري، وقد ترسخت هوياتها وسياساتها في ظل إدارة ترامب وخطاباته العنصرية، وهي تحافظ على فهم مشوه ومحدود لتاريخ الولايات المتحدة.

 الجديد في المشهد الأميركي، هو أن الشارع بات جزءاً من رسم مصير الولايات المتحدة وسط انقسامات عميقة في الهويّة الأميركية، واتهامات من قبل الجمهوريين للديموقراطيين بأنهم يأخذون أميركا الى اليسار وأنهم استعجلوا اختيار جو بايدن مرشحهم للرئاسة (بعدما كاد بيرني ساندرز - الواضح في توجّهاته اليساريّة - يحصل على الترشيح الديموقراطي للرئاسة)، فيما يتهم الديموقراطيون الترامبية والجمهوريين بأنهم تحت تأثير شعار أميركا العظمى أولاً، حقنوا الجمهور اليميني بجرعة بالغة الخطورة، وهو ما سيؤثر على رسم ملامح المشهد الأميركي الدولي في السنوات المقبلة. خاصة أن ترامب أعلن صراحة رفضه لنتائج الانتخابات، في ظل اعتقاد أنصاره أن الانتخابات مزورة وأن أميركا سرقت من الأجانب، وهو ما يعني ظهور تيار أو حزب ثالث فرض نفسه على المشهد الحزبي والسياسي الأميركي يشير إلى تغير وتحول تاريخي، قد يصل الى حد التنبؤ بسقوط جدار واشنطن عام 2021، كما سقط جدار برلين والكتلة الشرقية والاتحاد السوفياتي عام 1989.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات