آراء وتحليلات
مصر بعد عشر سنوات من انتفاضة يناير.. عبر ودروس
إيهاب شوقي
بعد عشر سنوات من الانتفاضة المصرية في 25 يناير، تتوفر مساحة زمنية كافية لتقييم التجربة وسلبياتها وايجابياتها، ويتوفر شرط رئيسي للحدود الدنيا من الأحكام الموضوعية، وهو الخلو من التأثيرات المباشرة للأحداث أو الوجود كطرف يمارس الفعل أو متلق لردود الفعل في الأحداث.
ولا شك ان هناك تباينات في تقييم التجربة، بعضها يمارس الغلو في تنزيهها عن الخطأ، وبالمقابل هناك تطرف في رفضها وكراهيتها ونعتها بالمؤامرة الخالصة وأنها مصدر الخراب وسبب لما تعانيه مصر من متاعب وأزمات ودائرة مفرغة من الاستدانة وسوء الأوضاع الاقتصادية.
وهنا نرى أن من الواجب القول إن الانتفاضة المصرية في 25 يناير شكلت حدثًا تاريخيًا هامًا رغم ضحالة محصلتها النهائية على تغيير الأوضاع والتوازنات بالاقليم، والأهم أنها شكلت محطة كبيرة لفرز القوى الوطنية والسياسية وحطمت كثيرًا من الأوهام والأصنام وشكلت اختبارًا حقيقيًا لقوى وشخصيات لم تكن قد اختبرت بشكل عملي قبل 25 يناير.
وقبل الخوض في بعض التفصيلات والدروس المستفادة ينبغي توضيح بعض الامور وضبط بعض المصطلحات:
أولًا: وصف الحدث بأنه انتفاضة وليس ثورة، هو بمثابة التحري للدقة وليس من قبيل التهوين من الحدث أو نزع صفة الثورية عنه نكاية أو انتقاصا من شأنه، الا أن الثورة بمعناها العلمي لم تتوفر شروطها في الحدث، حيث افتقدت جناحها التنظيمي رغم توفر ظرفها الثوري، وفشلت في توصيف أجندتها للتغيير الجذري في مطالبها رغم مشاركة جميع اطياف القوى السياسية.
ثانيًا: هناك خطأ شائع فحواه أننا نمر الآن باستمرار لتداعيات الانتفاضة وانها مستمرة وان مصر تمر بمرحلة ثورة مضادة، وان هناك موجة ثورية جديدة قابلة لاستعادة الحدث والانقضاض على الثورة المضادة، وهو خطأ مشترك بين بعض القوى السياسية، ويشكل لها املا زائفا، وبين السلطة في مصر، ويشكل هاجسا امنيا!
والحقيقة وشواهدها تقول ان الحدث كان محطة تاريخية لم تشكل الا انقلابا على رأس النظام الحاكم، ولم تصل حتى الى الطبقة الحاكمة بمنظوماتها أو حتى شخوصها، كما انه بالمقابل، شكلت تداعيات الحدث انقلابا على القوى السياسية ورؤوسها، مما أدى الى محصلة نهائية مفادها الفراغ السياسي والمزيد من تجريف الحياة السياسية بشكل أعمق وأخطر مما كان قبل الحدث.
ثالثا: لا يمكن فصل الحدث عن سياقه الاقليمي والدولي، حيث تزامن الانتفاضات وتشابهها فيما عرف بـ"الربيع العربي"، وما اعترى هذه الموجة من تداخلات وخلط بين ما هو ثوري حقيقي بحكم قوانين المد الثوري والتي تشارك بها قوى طامحة للتحرر الوطني بصدق ونقاء، وبين ثورات ملونة تشارك بها قوى عميلة وممولة بغرض خدمة اجندة استعمارية تهدف للفوضى او تغيير الانظمة بما يلائم الوظيفة المطلوبة للغرب في مراحل بعينها.
وهو ما انعكس على كل الانتفاضات بشكل متباين، واستدعى التدخل الاستعماري المباشر لضبط سير الانتفاضات وتحقيق المطلوب منها، اما بالتدخل العسكري ضد النظام في ليبيا، أو بالذراع التكفيري في سوريا، أو بسياسة الترهيب والترغيب والاعتماد على الاحتواء الخليجي في مصر وتونس أو بالقمع المباشر ضد الثوار كما حدث في البحرين، وصولًا للتدخل العسكري ضد ما آلت اليه الامور في اليمن.
وهو ما يثبت أن الغرب لا ينحاز لثورة أو نظام، وانما ينحاز لمصالحه، فهو تارة مع التغيير، وتارة مع بقاء الانظمة، وهدفه هو الحفاظ على السلطة التي لا يشكل بقاؤها خطرا، واجهاض التحركات الثورية التي تتناقض مع مصالحه ويتمثل الخطر عليه في نجاحها في الوصول للسلطة.
ان الوضع الراهن في مصر يشكل مرحلة خاوية من السياسة والقوى الفاعلة ويحمل في أعماقه بركانا قابلا للانفجار، وليس مطلوبا ولا مصلحة لمصر أو الأمة أن يحدث انفجار في أي من أقطارها، ولكن المصلحة تكمن في توظيف النيران واستثمارها في المقاومة والتنمية واستغلال حرارتها في الحماسة للخروج من الأوضاع المهينة وغير اللائقة بمقدرات الأمة ومواردها وتراثها الحضاري.
ما بقى من انتفاضة يناير هو يوم اجازة رسمية، لا يستطيع النظام الحاكم انكاره لأن الحدث كان منبتا لشرعيته، رغم التسفيه الدائم واسقاط الاخطاء والمصائب على هذا الحدث في خطاب النظام واعلامه، وما بقى من 25 يناير حنين ثوري لقطاعات كبيرة من الشباب وبقايا القوى السياسية باعتبارها لحظات شهدت نجاحا في اسقاط رئيس تولدت قناعة أن سقوطه اقرب للاستحالة بعد ثلاثين عاما على سدة الحكم ومحاولات اكيدة لتوريث الحكم لنجله من بعده.
ولكن ما بقي مما قبل يناير أكبر وأعمق، فقد بقي الارتهان للخارج والتبعية للخليج، ووهم السلام مع العدو الصهيوني، واتباع نمط اقتصاد الريع وتصفية جيوب المقاومة الاقتصادية والاعتماد على وجود طبقة حاكمة من المنتفعين والمنافقين وخريجي الجامعات الامريكية البعيدين تماما عن هموم الوطن والطبقات الكادحة والفقراء والمهمشين.
ان ثورة لم تتفق على توصيف الوضع الثوري وجذوره ورفع مطالب تتسق مع التشخيص، لا يمكن ان تتوقع النجاح رغم توفر عناصر كانت تحمل التشخيص ولكنها كانت مهمشة، وهو ما يفقدها مصطلح الثورة حيث فقدت ظرفها الذاتي المتمثل في تنظيم وقيادة متفقة على اجندة ثورية فاعلة.
كما ان ثورة وضعت الديمقراطية الغربية هدفا ومثلا اعلى رغم زيف هذه الديمقراطية والذي يثبت يوما بعد يوم، هو دليل على أحد أمرين، اما سوء تقدير للأمور يصبح معه الفشل مستحقا، واما سوء نوايا وارتزاق، يصبح معه الفشل أمرًا ايجابيًا.
كما ان الاستقلال الوطني إن لم يكن على أولوية أي عمل ثوري فهو انقلاب وسعي للسلطة لا سعي للتغيير.
وبالمقابل، فإن سلطة تشوه الانتفاضة والعمل الثوري بغرض قطع الطريق على أي معارضة، هي سلطة تمارس الانتحار، لأنها تسلم نفسها لجلاديها دون ظهير شعبي، وتنتظر مرحلة يضحي بها الغرب برجاله عندما تستنفد وظائفها وتصبح عبئا عليه، وهي سلطة لم تتعظ مما حدث لسابقيها.
ان تناولنا هنا ليس من قبيل احياء المناسبات، وانما من قبيل استقاء الدروس، لان هناك محاولات لاستنساخ الأحداث في بلدان عدة كما في العراق ولبنان وغيرهما، وبالتالي فنحن بصدد النصح بتوافر الشروط الفاعلة لاي عمل ثوري حقيقي، وهي باختصار ان تكون الثورة مسألة عامة لا شخصية، ومسألة جذرية لا شكلية، وان يكون جوهر الثورة هو الاستقلال الوطني والمقاومة واقامة العدالة وحماية المستضعفين.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024