آراء وتحليلات
المنظمات غير الحكومية في لبنان: أدوار ومشاريع غامضة
مريم كرنيب
تكثّف ظهور المنظمات غير الحكومية في لبنان مع تفجّر ما سمي بـ"ثورة الأرز" العام ٢٠٠٥ بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. وقد تضاعفت بعد القرار الأمريكي بتمويل مشروع "إضعاف جاذبية حزب الله" الذي خرج للعلن عام ٢٠١٠ مع شهادة السفير الأميركي السابق جيفري فيلتمان، واعترف حينها بدفع مبلغ نصف مليار دولار لإضعاف "حزب الله"".
في العام ٢٠١١ خرجت انتفاضات وثورات ما سمي بـ"الربيع العربي" في المنطقة، وتفجرت على إثرها الأزمة السورية، وطال لبنان من هذا الحدث الكثير من الشرارات والتداعيات. فبدأت الحراكات "الملوّنة" عن طريق التظاهرات والاعتصامات في وسط بيروت، لأهداف "المعلن عنها" هو إسقاط النظام الطائفي في لبنان. وتماهى الناشطون في لبنان بأغلبهم مع التيار المؤيد لما يسمى "الثورة السورية". لكن الانقسامات "السياسية والمذهبية" دخلت على الخط، كما دبّ الشقاق في صفوف قيادة هذا الحراك، وعجز عن الإقلاع، كما فشل في طرح أجندة تغيير وطنية، رغم أنه حظي بدعم شعبي من شرائح من الناشطين والإعلاميين، وتلقّى تمويلًا إقليميًا ودوليًا، ومع الوقت تبدد هذا الحراك هباءً منثورًا.
ثم تفجر الحراك مجددًا، في العام ٢٠١٥، لكن تصاعد التوترات السياسية في البلاد نتيجةً للوضع السوري، لم يكن أمرًا مساعدًا للحراك.
ومع بداية العام ٢٠١٩، تصاعدت وتيرة الاحتجاجات النقابية والعمالية بسبب تدهور الأحوال المعيشية والاقتصادية، وتطور الأمر الى مظاهرات شعبية كبيرة مع شعارات مكافحة الفساد ورفع المطالب الاقتصادية المحقة، وشيئًا فشيئًا دخلت مجموعات من الحراك المدني على الخط مطالبة بالمشاركة في الحكومة وتحقيق النظام المدني ودس المطالب السياسية في الحراك الشعبي، بدعم دولي واضح ومكشوف الوجه هذه المرة.
فانزلقت العديد من المنظمات غير الحكومية والمشاركة في الحراك الى ممارسات علنية فضحت أهدافها الأساسية البعيدة عن مكافحة الفساد والقريبة من الأجندة السياسية الأمريكية، كما ساعدت هذه الممارسات ذاتها في إحباط أهدافها:
- الاستثمار والتمويل: إن التعمق في البحث عن جهات "الاستثمار والتمويل"، وربطها بعنصر الفعالية في العملية السياسية، كانت تكشف دائمًا عن سيطرة وتحكم للمنظّمات والشخصيات المرتبطة بالدول والسفارات، بحكم التمويل الكبير لهذه المنظمات أولاً، ولتوفّرها عند التخطيط والإدارة ثانيًا، وبالنظر الى تشابك برامجها مع مراكز أبحاث ومؤسسات عريقة ذات خبرة مثل (الجامعة الأميركية في بيروت - السفارة الاميركيّة - منظمة فريدم هاوس - صندوق وقف الديمقراطية NID, وكالة التنمية الأميركية USAID....).
- التصريحات الأمريكية: إن تحليل وربط العلاقة بين الإدارة الامريكية والحراك المدني ودور المنظمات غير الحكومية فيه، لا يكتمل إلا برصد التصريحات والرهانات الأمريكية عليه والتي انتظرت اللحظة المناسبة للتوظيف السياسي والتي أفصح عنها مايك بومبيو وزير الخارجية آنذاك خلال حراك ٢٠١٩، ومساعدة ديفيد هيل وديفيد شينكر والسفير السابق جيفري فلتمان، وعدد من الباحثين في مراكز الدراسات الأمريكية. وجاءت هذه الاعترافات صادمة للحراك والجمهور اللبناني، وأكدت ما كان يُحكى عن دعم وتمويل لهذا الحراك، ومحاولة خطفه لأجندات سياسية.
- اللقاءات الأمريكية: خرجت وقتها الى العلن لقاءات الكترونية متعددة أجراها مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط آنذاك، ديفيد شنكر، مع ممثلي مجموعات مختلفة من الحراك، والتي كشفت وقتها أن العديد من مكوّنات الحراك هم مجموعة من الناشئين المرشحين للانتخابات ويريدون الوصول الى السلطة، للسيطرة على الأغلبية البرلمانية، وإعادة انتاج سلطة بديلة متناغمة مع الأهداف والشروط الأميركية التي حصل التفاوض عليها خلال هذه اللقاءات مع شينكر، والتي كشفت أيضًا أن المشكلة لدى الأميركيّ هي في كيفية تحقيق شروطه، لا في مكافحة الفساد.
- التحريض والاستفزاز الإعلامي المكشوف: ما بذلته الماكينات الإعلامية المحلية والعالمية المسخّرة للحراك ليلًا ونهارًا، من جهد كبير لتحوير أهداف الحراك نحو بيئة محددة، وحرف المطالب من مطلبية اقتصادية الى سياسية في اتجاه واحد مع ما مورس من استفزاز عبر قطع طرقات رئيسية وحساسة.
- بروز أسماء أساسية في الحراك وعناصر من منظمات المجتمع المدني مرتبطة بصورة مباشرة وعلنية بالإدارة الأمريكية تدريبًا وتمويلًا. ومنها من ذهب بعيدًا وعلنًا في إعلانه الاستعداد للتواصل مع العدو الإسرائيلي. وبعضهم وصل بهم الأمر الى تنظيم حملات دعائية ضد المقاومة، ودعم الصحافيين المطبّعين مع الكيان الصهيوني.
- القائد المستور: عملت العديد من مجموعات الحراك دون القبول بتحديد قائد لها، وادّعت أنّها ليست سوى مجموعة من المناضلين الثوريين الشباب البسطاء الذين التقوا بالصدفة، ليتبين لاحقًا أن معظمهم من ذوي الخبرة المتطورة جدًا.
- العلاقة الزبائنية: تجدر الإشارة الى أن الدعم المقدّم للمنظمات غير الحكومية باسم تعزيز المجتمع المدني لا يتخذ شكل التدفقات المالية فحسب، بل يُعتمد فيه سياسة تحديث، تسمى "التمكين"، التي تتّخذ شكل استراتيجية مبرمجة وانتقائية زبائنية لهؤلاء الوسطاء الجدد في مجال التنمية المحلية. وتتجسد هذه السياسة في تعدد الحلقات الدراسية، والدورات التدريبية التي يدعو اليها "الشركاء" الغربيون قادة المنظّمات غير الحكومية المحلية. والملفت أن من شأن نظام التدريب والإعداد هذا أن يعزز العلاقة الزبائنية التي ترسّخ تبعية هذه الجمعيات للممولين الغربيين.
خلاصة القول إن المجتمع المدني قد بيّن من خلال حراك تشرين ٢٠١٩ أنه ذلك الشيء الهلامي الذي يُخفي أكثر مما يُشهر، ليست لديه مطالب واضحة ولا وجوه، وفوق ذلك كله، يحتوي المتسربين اليه من الأحزاب قاطبة، ويسهل اختراقه من قبل الخصوم واللاعبين الكبار.
وبالمحصلة يمكن اعتبار بعض منظمات المجتمع المدني ليست مجرد منظمة غير حكومية، بل هي شركة تجارية تحصل على عقود لزعزعة الاستقرار!
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024