آراء وتحليلات
الأقليات العرقية في أميركا في ظل الحشرة القاتلة 2/ 2
عبير بسام
لم يكن من السهل على أحد في العالم تصور أنّ دولة كالولايات المتحدة لن تكون قادرة على احتواء وباء كوفيد-19. ولكن في الحقيقة، إن أحداً لم يكن جاهزاً، وإن الآلية الوحيدة في العالم التي كان من الممكن أن توقف الوباء أو تمكن من السيطرة عليه هي فرض الإغلاق العام. ولكن هذا ما لم يكن ليذهب إليه دونالد ترامب، الذي اتبع سياسات خاطئة كبيرة لتفادي الوباء. ولكن ما أسس لسلسلة من الفضائح في أمريكا أن الوباء كان أكثر فتكاً في المجتمعات ذات الأقليات العرقية في أميركا منه بالأغلبية البيضاء أو الغنية. وتعيش الأقليات في أمريكا من سود وهيسبانك وغيرها، وبحسب تقارير الأمم المتحدة وتقارير الجهات الرسمية للحكومة الفيدرالية، أسوأ الأوضاع الاقتصادية والصحية.
نشرت رويترز في التاسع من هذا الشهر، أن كاليفورنيا قد تفوقت على نيويورك بعدد ضحايا كوفيد- 19. إضافة لما جاء في تقرير آخر لرويترز في بداية هذا الشهر عن الوضع الاقتصادي الشيء للأقليات، فقد كان تأثير الوباء الصحي هو الموضوع الثاني في الأهمية خلال اللقاء بين وزيرة الخزانة جانيت يلين وجمعية التجار السود وكامالا هاريس نائبة الرئيس الأميركي. خلال اللقاء تحدثت هاريس عن خطورة وضع السود والعدد الكبير للوفيات بينهم بسبب الفايروس. وقد جاء في تقرير آخر لرويترز نشر في 9 شباط/ فبراير، أن عدد الإصابات بكورونا فايروس في ولاية كاليفورنيا، التي تمثلها هاريس في الكونغرس، قد فاق عدد الإصابات في نيويورك.
كما نشرت NBC news، في مقال لها في 9 شباط/ فبراير أن التقارير الأولية تؤكد أنّ الإصابات ما بين الأقليات العرقية هي الأشد فتكاً. وتبلغ نسبة الإصابات بالوباء المؤكدة في ولاية ميشيغان ما بين السود 33%، وأن 40% من هذه الإصابات كانت قاتلة. هذا مع العلم أن السود يشكلون 14% من سكان الولاية. وأما في ولاية لويزيانا فإن 70% من الذين توفوا بسبب الوباء هم من السود، هذا مع العلم أنهم يشكلون 32% من سكان الولاية. وفي ولاية بوسطن المصابون من السود بالوباء 40%، في حين أنهم يشكلون 25% من تعداد سكان الولاية. ويلامس عدد الإصابات الجديدة الـ 400 حالة في كل ولاية في كل يوم. ويمكننا أن نذكر الأرقام والنسب التي جاءت في باقي الولايات والتي تظهر وبشكل مخيف تأثير الوباء ما بين السود إلى ما لا نهاية، ولكنها في الحقيقة الدليل الحقيقي على الواقع الصحي والاقتصادي المزري للسود في أمريكا "العظيمة".
كتب أزهار آزام على موقع Global Research، في أيار/ مايو الماضي عن أوضاع السود في الولايات المتحدة، قائلاً إنهم يملؤون السجون بأعداد كبيرة، ويعيشون تحت خط الفقر، وتقتل أعداد كبيرة منهم على أيدي الشرطة، وهذا ما أدى إلى نشوء حركة "حياة السود مهمة"، والتي تنادي بشعارات أن الشرطة للسود أيضاً وضد نظرتها العنصرية ووحشيتها وضد النظام القضائي المتحيز ضدهم.
وقد بات من المسلمات أن رواتب السود والملونين في أمريكا هي أقل بكثير من أقرانهم البيض، ويعمل معظمهم كعمال أساسيين في التنظيفات وخاصة في الخدمات الصناعية مما يجعلهم عرضة للالتهابات والعدوى وبالتالي مواجهة الأمراض المزمنة والموت المبكر. وفي حالة الأزمات فهم أول من يتم تسريحهم من العمل وآخر من يتم توظيفهم، مما يجعلهم عاجزين عن تسديد الفواتير الطبية خلال الأزمات. ويشكل السود 14% من المجتمع الأميركي، و30% منهم مصابون بالحشرة القاتلة كوفيد-19 كما يسمونها. وهذه النسب قاتمة في ولايات أميركية أخرى وغير واضحة.
يشرح دانيل سولومون نائب رئيس برنامج العرق والإثنيات في المركز الأميركي للتطوير، في "الغارديان"، أنه ليس مفاجأة أن يكون السود من المجموعات العرقية التي لا تملك تأميناً صحياً، وأن تكون ظروفهم الصحية المتعلقة بالجائحة أسوأ من مثلائهم البيض، وأن تكون نسبة الوفيات بينهم أعلى بكثير، مقارنة بأي مجموعة في الولايات المتحدة. اذ بلغت نسبة الوفيات بين السود 25%، مع أنهم بالكاد يبلغ عددهم 13% من عدد السكان. ويتابع سولومون أن كل ما يفعله المسؤولون عن دراسة حالات الطوارئ الوطنية المتعلقة بالأوبئة والأمراض أنهم يسلطون الضوء على عدم المساواة، وما يحدث في حالة كوفيد-19 هو الأمر عينه، وهو ما يتكرر في مجتمعنا منذ وقت طويل.
ويؤكد سولومون، أن المال يمكّن أي عائلة أو شخص من تفادي الحالات الطارئة مثل اجتياح وباء ويمكّن أي شخص من العناية بصحته. ولكن مجتمع السود يعاني من الفقر، والفقير هو الأكثر تأثراً في حالة الطوارئ الصحية. وحتى أن متوسط عمر الفرد الفقير هو أقل بـ 15 عاماً من متوسط العمر عند الأغنياء.
نشرت منظمة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة تقريراً في آذار/ مارس من العام 2020 حول إسكان المشردين في الولايات المتحدة في ظل الجائحة التي اجتاحت العالم. وجاء في التقرير الناتج عن دراسة قامت بها جامعة ميامي أنّ من أهم أسباب انتشار الوباء بين الأقليات في أمريكا هو نظام الإسكان الذي لا يحمي حقوق الناس في إيجاد مسكن شرعي ونظيف. وبسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية فقد اضطر الكثير من السود والأقليات لإخلاء منازلهم والانتقال إلى مراكز إيواء مكتظة سمحت بانتشار الوباء بسرعة ما بين روادها، والذين لا يسمح لهم بالبقاء فيها بأكثر من يومين، وبعدها يتم الانتقال إلى مراكز اخرى، وينتقل الوباء مع المصابين من مركز إلى آخر. وبحسب التقارير الصادرة من جهات متعددة ومنها الغارديان، وجامعة ميامي فإن عمدة كاليفورنيا رفض بناء مراكز إيواء على مساحات واسعة من الأراضي التي تمتلكها الولاية بحجة أنها مخالفة للقوانين. ولكن في الحقيقة، فإن بناء مراكز مثل هذه يخفض من قيمة الأراضي المحيطة بها ويبعد المستثمرين الكبار عن بناء مشاريع فيها، هذه المشاريع التي تكون عادة مشاريع استثمارية من كازينوهات وفنادق وبيوت مخصصة للطبقات المتوسطة العليا والأغنياء والتي لا يناسبها العيش قريبة من مراكز للإيواء.
بالرغم من توصيات الحكومة الفيدرالية بتأمين الإسكان إلّا أنّ بعض الولايات لم تلتزم بذلك، اذ جاءت بعض قرارات المحاكم مناقضة لما أوصى به مسؤولو الصحة العامة واستمرت بطرد المشردين من مراكز الإيواء، إما بتهديدهم بدفع الغرامات أو بسجنهم. وتستمر الولايات بوضع المشردين في مراكز الإيواء وترفض أن تؤمن مخيمات واسعة لإيوائهم أو الإحالة دون طردهم من البيوت أو تأمين وحدات سكنية منفردة لهم، بسبب وقوع الكثير منهم بعد الجائحة في حالة من العوز الاقتصادي.
قبل انتشار كوفيد 19، كان يوجد في الولايات المتحدة حوالي 568000 مشرد، ويشكل هؤلاء مجتمعا هشا أمام الأمراض المعدية، وبحسب التقرير السنوي حول المشردين الصادر عن إدارة الإسكان والتطوير المدني للعام 2019، فإن 40% من هؤلاء تم طردهم من بيوتهم، 22% من الهسبانيك أو اللاتينو، ومنهم 13% من السود، والباقي من البيض واثنيات أخرى. ومن المحتمل أن تصل النسبة إلى 45% في نهاية العام 2020 بسبب حالات إخلاء البيوت لعدم القدرة على دفع الإيجارات، والدولة الفيدرالية غير قادرة على القيام بما يجب من أجل إطالة أمد الإسكان لهؤلاء.
الحديث عن المشردين في الولايات المتحدة، ليس جديداً، ولا أمل لهم بتغيير أوضاعهم في المدى المنظور. ولكن بموجب النظام الصحي الأميركي فمن الممكن أن يتم استقبال هؤلاء في المستشفيات في حال المرض. ولكن ليس من الممكن تفادي تعرضهم للعدوى بسبب الاكتظاظ في مراكز المشردين، وعدم وجود بيئة عزل صحي، ولكن في كل الأحوال يعتبر المشردون حالة بحد ذاتها في الولايات المتحدة، خاصة وأن معظمهم ممن تجاوزوا الخمسين من العمر، وهم أشخاص فقدوا أعمالهم.
نشرت جامعة أكسفورد مقالاً على صفحتها الإعلامية المتعلقة بالمعلومات الطارئة لأخبار الوباء وتأثيراته وانتشاره، نقلاً عن "مجلة الأمراض الوبائية" العلمية والمتخصصة، والذي قام بكتابة المقال مجموعة من الأطباء والاختصاصيين، وتضمن احصائيات هامة حول واقع الوباء ما بين الأفارقة الأميركيين في الولايات المتحدة، وحول الأقليات العرقية المتضررة من الوباء ومنهم سكان أميركا الأصليون، والذين تعتبر حالاتهم موضوعاً هاماً بحد ذاته. جاء في المقال أن عدد المصابين بالوباء حتى حزيران/ مايو 2020 قد بلغ 8 ملايين مصاب، توفي منهم 450 ألف إنسان، وانتشر الوباء في أكثر من 200 دولة.
قد يكون المرض قد خلق حالة من التعاضد العالمي، وانتشار الشعار العالمي: "نحن جميعاً في هذا متعاضدون"، وذلك بغض النظر عن العرق والدين. ولكن بحسب ما جاء في المقال فإن التمييز العنصري الذي ساد في الولايات المتحدة وتأثيرات الوباء على الأقليات العرقية وخاصة السود، أمر لا يمكن إشاحة النظر عنه. فالوباء يقتل بأعداد هائلة الملونين في أميركا. وبحسب "مراكز السيطرة على الوباء والوقاية منها" فإن 1500 فقط من الأفارقة الأميركيين استقبلوا في المستشفيات في 14 ولاية أميركية، مع أنّهم يشكلون ثلث الحالات التي استدعت الاستشفاء، هذا مع العلم أن عينات الدراسة تناولت فقط 18% من السكان في مناطق الدراسة و13% من عدد سكان أمريكا.
ويتابع المقال، أو تقرير الحالات، أنه بحسب جريدة واشنطن بوست فإن نسبة تفشي الوباء ما بين السود هي ثلاث مرات أكبر من مثيلاتها ما بين البيض. ففي ولاية لويزيانا وجد أن 70% ممن ماتوا بسبب الوباء هم من الأفارقة الأميركيين، وهم يمثلون 32% من مصابي عدد سكان الولاية، و60% من سكان مدينة نيواورلينز حيث الوباء يصل حده الأسوأ في الولاية. وأما في ولاية نيويورك فيبلغ عدد السكان السود 9% من المجموع العام في مدينة نيويورك فقط. ولكن 17% من حالات الوفاة في المدينة بالوباء هي من السود. وهذه الأرقام تتحدث عن السود، أو الأفارقة الأميركيين بالتحديد ولا تشمل جميع الأقليات العرقية في المدينة.
ولكن علينا ان نكون واقعيين فهذه الأرقام التي تنشر حول عداد الإصابات والوفيات بين الأفارقة الأميركيين في أميركا لا تعبر عن واقع جديد. بل في الحقيقة إن هذه الفوارق تعبر عن الواقع المأساوي المتأصل في الإهمال الصحي الذي تعاني منه جميع الأقليات العرقية في الولايات المتحدة ولكن ما قام به الوباء هو فضح هذه الفوارق في مجال الصحة العامة في المجتمع الأميركي. فمعظم الولايات والمدن لا تقدم تقاريرها آخذة بعين الاعتبار الحالات العرقية المختلفة، بل تقدمها بشكل عام، مما يصعب عمليات دراسة انتشار الوباء بشكل فعلي ما بين الأقليات العرقية، ومما يصعب بالتالي وبحسب "مجلة الأمراض الوبائية" إيجاد رؤيا واضحة حول إمكانية بناء نظام صحي متوازن يحمي الأقليات العرقية من فوارق الوصول إلى العناية الصحية في المستقبل.
فيروس كوروناالعنصريةلقاح كورونا
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024