آراء وتحليلات
إدارة المناقصات.. الدور الإصلاحي المفترض والمحجوب
هاني ابراهيم
نشأت في لبنان خلال عهد رئيس الجمهوريَّة الراحل الجنرال فؤاد شهاب عام 1959، مجموعة من الأجهزة الرقابية، في محاولة لتعزيز سلطة الدولة على الإدارات والمؤسسات العامَّة والبلديات وكافة الهيئات وأشخاص القانون العام إلا ما استثني بنص خاص لضروريات أمنيَّة وعسكريَّة، من أجل مساعدة الحكومة والسلطة الإجرائيَّة على القيام بمهامها من حماية الشرعية وضبط المسار الإداري بشكل سليم ومنع الهدر ومكافحة الفساد وصون المال العام.
ومن ضمن هذه الأجهزة كانت إدارة المناقصات، التي يعود تاريخ إنشائها للعام نفسه بموجب المرسوم رقم 2460/59 بتاريخ 1959/11/9 الخاص بتنظيم التفتيش المركزي، حيث شكلت هذه الإدارة جزءًا لا يتجزأ من الهيكلية التنظيمية للتفتيش.
وبالنظر لتاريخ إنشاء هذه الأجهزة، ظهر شبه إجماع على أن أجهزة الرقابة وأنظمتها في لبنان قديمة، وهي تقتل في مكان ما المبادرة لدى الموظف المندفع، كما وتعرقل مسيرة العمل الإداري والتنموي أيضًا، وتهدر المال العام والخاص في الوقت نفسه، ما يعني أن غياب الرّقابة الفعَّالة يؤدي إلى استشراء الفساد والانحرافات الإدارية.
ونتيجة لذلك، ولما كانت هذه الأجهزة ملائمة لتلك الفترة الزمنية، فهي اليوم عاجزة عن القيام بما هو منوط بها في ظل الثورة العلميَّة والتكنولوجيا حيث "يخضع المدنيُّون لوسائل المراقبة المفرطة وبما أن العلاقة الجدليَّة بين القانون والرقابة والمساءلة، انعكست إيجابيًا على الإدارة تحت مسمى الإصلاح فهي وسواء كانت، رقابة خارجية، تسلسلية أم وصائية، فإن لها وظيفة إدارية أساسية، ولكن لا قيمة لهذه الوظيفة إن لم تقترن بتنفيذ القوانين والمتابعة والمحاسبة.
كان هذا الأمر الدافع إلى الاتجاه نحو قانون جديد وعصري خاص بالمناقصات يساعد بما يتناسب مع التطور والحاجات إلى قيام هذه الإدارة بدورها الأمثل وإعطاء النتيجة المتوخَّاة من عملها، ولقد لمسنا ذلك من خلال التعويل على هذا القانون من الموظفين وحتى من المدير العام، أنَّ التواقيع، والتواقيع المصادق عليها المطلوبة على نطاق واسع في كل معاملة إدارية تقريبًا، ووسائل المراقبة من قبل مختلف المستويات الإدارية - كالتفتيش المركزي الذي يضم وفق هيكليته التنظيمية إدارة المناقصات - شديدة، وأحيانًا متداخلة، ما يعقد سير العملية الإدارية ويطيل أمدها ويُغْرِقُها بالمستندات والتي من شأن إحداها أن تغني عن الأُخرى.
وهذه العثرة، تفسد نظام المسؤوليَّة بدلًا من تقويته ما يؤدِّي إلى جعل المواطنين هم من يدفعون ثمن التأخير والروتين الحكومي في هذا الإطار.
ورغم أن المناقصات العمومية تمثل رافدًا من أهم روافد التنمية، التي لها التأثير المباشر على الاستثمار والتشغيل كما تشكل الوسيلة الأمثل لتدخل الدولة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، إلا أن ارتباط إدارة المناقصات إداريًا بالتفتيش المركزي، جعل عملها الرقابي مرتبط تبعيًا به، الأمر الذي حد من فعالية هذه الإدارة وقيد عملها من جهة، وحرمها من الإمكانيات التي تساعد على إعطاء هذه الإدارة المساحة الكافية لممارسة عملها في الاتجاهين الرقابي والإصلاحي بشكل متوازن، حيث إنَّ التَّكبيل التشريعي والقانوني لإدارة المناقصات من الناحية التنظيمية يحرمها من ممارسة أعمال رقابية وإصلاحية مهمة بالرغم من إدارتها المستقلة ووظيفتها الخاصة.
قامت الدولة اللبنانية بمحاولات في الإطار التشريعي، من خلال مشروع قانون الصَّفقات العموميَّة والذي أحالته الحكومة الى مجلس النواب بموجب المرسوم رقم 9506 بتاريخ 12/12/2012، في محاولة لتوحيد المعايير المعتمدة في الشراء الحكومي في إدارات الدولة والمؤسسات العامّة والبلديّات واتحادات البلديات، الخاضعة لقانون المحاسبة العموميَّة، إلاَّ أنه لمْ يبصر النُّور حتى الساعة.
ولعلَّ أبرز وأهم ما يمكن إضافته تشريعيًّا في هذا الإطار، وبعد تجربة ميدانية في لجان المناقصات هو إعطاء اللجنة الصفة القضائية، وأنَّ القول وبظل عدم وجود قاضِ برئاسة اللجنة بأنه لا يمكن اعتبارها كذلك هو كلام في غير محله، حيث الصفة تعطى بالنظر إلى طبيعة الأعمال والأصول المتبعة وماهية قراراتها لأنها تتولى الفصل في المنازعات والرفض والقبول.
لذا، لا بد من توسيع الدور الرقابي لإدارة المناقصات وتحويلها إلى هيئة عليا للمناقصات وللصفقات العموميَّة، وعدم الاكتفاء بأن تكون الممر الروتيني للصفقات العمومية، بل إعطاؤها الصلاحية للإشراف على الصفقات العامة في الإدارات والمؤسَّسات العامة والبلديات.
كلُّ ذلك من خلال اعتماد معايير موحَّدة ودفاتر شروط نموذجيّة تؤدي إلى منافسة حقيقية فتحصل الدولة من خلال ذلك على أفضل الخدمات أو اللوازم والأشغال بأقل كلفة كما تحرك عجلة الإقتصاد. "إنه نداء لكل من يؤمن بدولة القانون والمؤسسات، إننا مدعوون جميعًا لتطبيق قواعد الاختصاص، لينتظم ويستقر العمل الإداري، لأن كلاّ من الاستقرار والانتظام لا يتحققان إلاَّ بالعودة إلى فكرة ونهج دولة القانون والمؤسسات، والتزام مبدأ المشروعيَّة، وإعمال النصوص التي تكرس الرقابة لا إهمالها، تمهيدًا لمساءلة كل من يتعاطى في الشأن العام، عند الاقتضاء، أيًا كان موقعه وذلك على غرار ما حصل في معظم الدول العربية لا سيما في تونس، حيث الفساد لا سيَّما المالي منه قد فعل فعله إلى درجة دفعت وزير الوظيفة العمومية والحوكمة عبيد البريكي الى القول إن الفساد في تونس استشرى بعد الثورة في كافة مفاصل الدولة ولم تعد محاصرته أمرًا يسيرًا.. فهو مسألة خيار مدروس يجب أن تتوافر الإرادة السياسية لتحقيقه".
إن هذا التصريح يدل على أن الفساد لا يعالج إلَّا بالإصلاح وهذا الإصلاح مقوماته أجهزة رقابية وتشريعات وقائية وردعية مع ضرورة توافر الإرادة السياسية له، ولقد تجاوزت تونس ذلك من خلال عدة مبادرات ليس أقلها أن إدارة المناقصات العموميَّة المسماة في تونس مجلس المنافسة هي إدارة مستقلة من جهة كما ولها قانون خاص عرف بموجبه الصفقات العمومية وآلية عمل هذا المجلس.
إِن إعطاء أهمية لدور هذا المجلس في التصدي للفساد يعني بصورة أُخرى البعد الإصلاحي لعمل هذا المجلس، وهو ما ينقصنا في لبنان من ضرورة الاعتراف بدور إدارة المناقصات وإعطائها الصلاحيات وفق القانون، وهو أمر أساسي في هذا الإطار.
كذلك الأَمر نفسه في مصر، حيث الهيئة العليا للطَّلب العمومي، وقانون المناقصات والمزايدات الجديد الصادر بالرقم قانون 89/ 1998 والمعدل بالقانون 14/ 2009 ومن ثم المعدّل في العام 2018 ليتماشى مع التشريعات المعاصرة ولائحته التنفيذية والتشريعات المكملة له والذي فرض أن يكون التعاقد على شراء المنقولات، مقاولات، أعمال، نقل، وتلقي الخدمات والدراسات الإستشارية والأعمال الفنية عن طريق المناقصة العامة أو الممارسة العامَّة وفي الحالات الاستثنائية الُّلجوء إلى المناقصة المحدودة والمناقصة المحلية.
كلُّ ذلك يتمُّ من قبل السلطة المختصة، ما يعني أن هناك ثلاثة أنواع للصفقات العمومية في مصر، المناقصة العامة، والمحدودة والمحلية، لذا لا بد من الاستفادة من هذه التجارب بما يتناسب مع الإدارة اللبنانية بشكل نعطي لأجهزتنا الرقابية بعدها الإصلاحي والذي لا يتحقق إلاَّ بثلاثيَّة لا بد أن تبدأ بإدارة سليمة بالتساوي مع قانون يحمي ويضبط، وقرار سياسي حاسم بحماية هذه الأجهزة وتقديم كل ما تحتاجه من دعم في سبيل تطبيقها لعملها على أكمل وجه.
إن هذه الآلية تضمن لمؤسساتنا الاستمرارية المنتجة ولدولتنا البقاء تحت قبة القانون، ما يبقي لبنان دولة للقانون والمؤسسات ويكون المعيار الأساسي هو "تطبيق القرارات وِفقًا للقانون، وعدم تطويع القانون ليتوافَقَ مع أَهواء واضعيه".
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024