آراء وتحليلات
مخاطر التدويل..تجارب ليبيا وسوريا والعراق
د. علي مطر
الأزمة هي نمط من المشكلات، نقطة تحول مصيرية في مجرى حدث ما، وترتبط بتجاذبات قديمة وعوامل متعددة. وتحصل الأزمة السياسية نتيجة موقف مفاجئ يُهدد بتحول جذري في الوضع القائم بسبب المفاجأة وضيق الوقت المتاح لاتخاذ القرار، والتهديد القائم للمصالح الحيوية، وهي تتطلب إدارة سريعة ودقيقة للتعامل معها. ويشير روبرب نورث (Robert North) إلى أن الأزمة الدولية هي عبارة عن تصعيد حاد للفعل ورد الفعل، أي هي عملية انشقاق تحدث تغييرات في مستوى الفعالية بين الدول، وتؤدي إلى إذكاء درجة التهديد والإكراه. وكثيرًا ما تكون الأزمة محلية فتتحول إلى أزمة دولية متشعبة، تدخل فيها أطراف متعددة من أجل مصالح معينة، تحت شعار تدويل القضية لحل الأزمة، ما يؤدي إلى حصول تعقيد كبير فيها، وتتحول في أحيان كثيرة إلى حرب كارثية بين أبناء البلد الواحد، أو تؤدي إلى الاحتلال من قبل الدول الكبرى للدولة التي تعرضت للأزمة، وهنا تكمن خطورة التدويل الذي يدعو إليه البعض، لأنه سيكون له نتائج كارثية على البلد، وهذا ما حصل في أزمات متعددة في المنطقة العربية منها الأزمة الليبية والأزمة السورية والأزمة العراقية، وهو ما سنتحدث عنه تباعًا.
أولًا: نموذج الأزمة الليبية
بعد مرور سبع سنوات على سقوط نظام القذافي، لا تزال ليبيا تغرق في أزمة سياسية متداخلة الأطراف، وحتى الآن تعاني ليبيا نتيجة التدويل انفلاتًا أمنيًا وانقسامًا سياسيًا، وأزمة اقتصادية حادة.
وقد تجلى أحد أبرز وجوه الانقسام في تنافس حكومتين على الشرعية والسيطرة، إحداهما حكومة الوفاق الوطني التي تحظى بدعم أممي برئاسة فايز السراج غربي البلاد، والثانية الحكومة الليبية المؤقتة برئاسة عبد الله الثني.
وزادت حدة الأزمة بوجود العشرات من الميليشيات والقوات المسلحة الموالية لأطراف النزاع والمتنافسة فيما بينها، وقد أدى الانقسام السياسي والعسكري الى تكريس وضع "اللا دولة" وغياب المؤسسات الموحدة والنافذة، وطيلة سنوات أنهكت البلاد الاشتباكات التي ما إن تهدأ حتى تعود من جديد تحت أسباب ومسميات مختلفة، وأثرت على الاقتصاد والخدمات العامة، وقطاع الصحة العمومية، وتسببت بنزوح عشرات الآلاف.
وفيما تنقسم الأطراف إلى طرفين متنازعين جزء منها ينتمي إلى مجموعات مسلحة تحت قيادة المشير خليفة حفتر والذي يحظى بدعم من مصر والإمارات العربية المتحدة، فإن الحكومة التابعة للمؤتمر الوطني العام، وتسمى أيضًا "حكومة الإنقاذ الليبية"، مدعومة من قبل تحالف جهات إسلامية تعرف باسم "فجر ليبيا" وتحظى بدعم من قطر، السودان وتركيا.
كل ذلك، فضلاً عن انتشار تنظيم "داعش"، الذي دخل مناطق ليبيّة كـ"برقة" في الشّرق، "فزّان" في الصّحراء جنوبًا وطرابلس في الغرب. وبما أنّ أجهزة الدولة الجديدة في ليبيا فشلت في توطيد مؤسساتها، وفشلت في إدماج الشعب الليبِيّ في الفترة الأولى عقب سقوط القذافي بين 2012-2013، فإنّ الفراغ الأمنيّ والسّياسيّ في ليبيا قد خلق مناخًا مناسبًا مكّن الإرهابيين من اللجوء إليه بعد انتهاء اشتباكاتهم في العراق وسوريا.
وتعود جذور الأزمة إلى ثورة سنة 2011 والتدخل الدولي عقب قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1973، وقد شاركت عدة دول غربية بتطبيق قرار مجلس الأمن الدولي من أبرزها فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، لكن من جهة أخرى فقد أبدت بعض الدول الأخرى تحفظاً عليه، أهمّها روسيا.
ويمكن القول إنّه بعدما قامت الثّورة الليبيّة ضدّ "نظام القذافي"، سرعان ما تحولت إلى حرب أهليّة مسلّحة، ما أدّى إلى تدخل الدّول الغربيّة في ليبيا، التي عملت على استصدار قرار من مجلس الأمن حمل الرقم (1973) ، وقد نصّ على " فرض حظرٍ جويٍّ على ليبيا" ممّا نتج عنه تراجع "قوّات القذافي"، وأسهم في إفشال الدولة الليبيّة وانهيارها، من خلال وجود انقسامٍ بين القوى السّياسيّة داخل ليبيا، ودخول الجماعات الإرهابية.
ثانياً: نموذج الأزمة السورية
شكّل النّزاع السّوريّ، الذي تحوّل إلى أزمةٍ دوليةٍ، أحد أكثر النّزاعات تعقيدًا وتأثيرًا على الأمن الدوليّ وعلى مجمل العلاقات الدوليّة. تحوّلت الأزمة السّوريّة على إثر انتشار الإرهاب فيها إلى أزمة دوليّة متشعّبة، دخلت فيها أطرافٌ متعددةٌ، وانقسم العالم بين معسكرٍ مؤيدٍ لسوريا وعلى رأسه روسيا وإيران، وآخر محاربٍ لها وعلى رأسه الولايات المتّحدة الأميركيّة، التي وقفت إلى جانب المسلحين ودعمتهم واحتلت أراضيَ سورية. لقد أدّت الحرب في سوريا إلى تفكيك بنيان الدّولة السّوريّة، التي فقدت السّيطرة على القطاعات المنتجة، بما فيها قطاع النّفط والغاز، وقد بلغ آخر التقديرات لكلفة إعادة بناء ما تهدّم 570 مليار دولار.
وسبب تدويل الأزمة، بتمزيق الديمغرافية السورية من خلال النزوح والهجرة واللجوء، وازدياد عدد الوفيات والإصابات النّاجمة عن هذه الحرب، إلى تفريغ سوريا من السكان. حيث اضطر نحو 45% من السكان، بسبب انتشار الجماعات الإرهابيّة، إلى مغادرة أماكن سكنهم. وخلص تقرير للبنك الدّوليّ إلى أن ما يقرب من 538 ألف وظيفةٍ تعرّضت للتدمير سنويًا، خلال السنوات الأربع الأولى من الصّراع، وأنّ الشّباب الذّين يواجهون الآن نسبة بطالة تبلغ 78% لديهم خياراتٌ قليلةٌ للبقاء.
لقد أسفر النّزاع المسلّح عن تدمير النّسيج الاجتماعيّ في سوريا، مع توسع التّدخلات الدّوليّة التّي عمّقت الاستقطاب السّياسيّ بين السّوريّين، وأدّت إلى ضرب الهويّة الوطنيّة والنّسيج الوطنيّ، وعمّقت الخلافات السّياسيّة، مع ازدياد خطاب الكراهية والتّمسّك بالطّائفية بالمذهبية ورفض الآخر، الشريك في الوطن، بعد أن كانت سوريا ساحةً للتّلاقي والتّعايش بين أبناء الدّيانات المختلفة، وبعيدةً عن خطاب الطّائفية والمذهبيّة.
ومع تحوّل سوريا إلى ساحة صراعٍ تتجاذبها التّناقضات الدّوليّة، وعلى وجه الخصوص التّناقض بين أعضاء مجلس الأمن الدّوليّ، كثرت التكهّنات بشأن دور الأمم المتّحدة في المستقبل، وذلك إثر فشلها في إيجاد حلٍّ دبلوماسيٍّ يُرضي أطراف النّزاع إلى مزيدٍ من العنف المسلّح، في ظلّ تزايد الدّعم الخارجيّ بكلّ الوسائل لتحقيق المصالح. فلم تُظهر الأمم المتحدة قدرةً كافيةً في حلّ الأزمة السوريّة، وذلك في ظلّ وجود اختلافاتٍ كبيرةٍ في الرؤى بين دولها، وخاصةً الدّول الكبرى في مجلس الأمن.
ثالثاً: نموذج الأزمة العراقية
بعد الغزو الأميركيّ للعراق عام 2003، أخذ التغلغل الأمنيّ في العالم العربيّ، صورةً جديدةً حيث تغيّر نمط التّدخل الأميركيّ، من تدخل من خارج الحدود، على الرغم من وجود قواعد عسكرية في عدة دول عربية، إلى وجود فعلي داخله. وقد سعت الولايات المتّحدة الأميركيّة بعد دخولها العراق إلى الحصول على شرعيةٍّ عربيّةٍ لسياستها، وانتهجت استراتيجيّةً تقوم على توزيع الأدوار في النّظام الإقليميّ العربيّ، ممّا يدفع القوى الرئيسيّة إلى النزول عند الإرادة الأميركيّة. وقد نتج عن احتلال العراق المزيد من الاختراق لأمن العالم العربيّ، كما ترتّب على احتلال العراق، من ناحيةٍ ثانيةٍ، انهياره كقوّةٍ إقليميّة.
نفذّت قوّات الاحتلال منذ دخولها بغداد في 9 نيسان/ أبريل 2003 عملية هدمٍ منظمّة لأجهزة النّظام العراقي السّابق ومؤسّساته ورموزه، لتحلّ محلّها بدائل تتّفق وصورة العراق الجديد، الذّي سعت الولايات المتّحدة إلى بنائه، ونتج من عملية الهدم تلك، عدم وجود سلطةٍ أمنيةٍ قادرةٍ على بسط سيطرتها على كامل الأراضي العراقيّة، إذ باتت هناك مناطق تديرها جماعات مسلّحة، وهذا الوضع كان يتّفق وظاهرة الدولة الفاشلة.
لقد بلغ عدد القوّات الأميركيّة 135 ألف جنديٍ، ووصل إلى 168 ألف جنديٍ، حتى نهاية عام 2007، لكن بعد الانسحاب الأميركيّ من العراق في 18 كانون الأول/ ديسمبر 2011، لم يبقَ غير 157 جنديًا أميركيًا، يساعدون على تدريب القوّات العراقيّة ويعملون تحت سلطة وإشراف السّفارة الأمريكيّة في بغداد.
وقد شكّل هذا الانسحاب خطأً استراتيجيًا بالنّسبة لـ"واشنطن"، وذلك لأنّه اعتبر بداية تراجع هيمنتها في المنطقة العربيّة، وانكفائها عن الشّرق الأوسط. كان ذلك بعد أن تركت العراق بلدًا منقسمًا بنيته ضعفية وأمنه هش، مستفيدةً من توقيع عدّة اتفاقاتٍ اقتصاديٍّة وأمنيٍّة تؤمّن مصالحها. كانت الإدارة الأميركية، تسعى من خلال الاتفاقية الأمنيّة التّي وقعت مع العراق إلى إبقاء وجودٍ عسكريٍّ دائم، وقد بذل الجيش الأميركيّ جهودًا للحصول على قوّة أكبر، وسعى البيت الأبيض إلى إبقاء وجودٍ عسكريّ يصل إلى 10 آلاف جنديٍ أو أقل من ذلك. لكن ذلك قوبل بالرّفض من قبل العراقيين، وقد شكّل ظهور "داعش" في العراق الباب الكبير، لإعادة تموضع وزيادة هذه القوّات في بلد عانى في مواجهة إرهاب كانت واشنطن سببًا أساسيًا في صعوده، خاصةً بعد أن انسحبت من العراق من دون أن تبني عراقًا مستقرًا.
إذاً، كما يتضح فإن التدويل ينافي المصلحة الوطنية وهو ما ظهر من خلال النماذج التي قدمناها، حيث يؤدي إلى تقسيم الدول وزعزعة أمنها واستقرارها، ويرفع احتمالات الحرب الأهلية وضرب العيش المشترك بين أبنائها، وهذا التدويل لا يصب إلا في مصلحة الدول التي ستقوم به، وفي لبنان لا يصب إلا في مصلحة كيان العدو الاسرائيلي.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024