آراء وتحليلات
لبنان بمواجهة "القاتل الاقتصادي": صندوق النقد الدولي
صوفيا ـ جورج حداد
الحرب الاقتصادية و"تكتيك" الحصار ومنع الغذاء والماء والمؤن عن المدينة أو البلد المحاصرين هما من الخطط المعروفة والمتبعة في تاريخ الحروب في العالم. ونذكر على سبيل المثال:
ـ1ـ حينما غزا هتلر البلدان الأوروبية خلال الحرب العالمية الثانية، كان الجيش الألماني النازي يحمل معه كميات هائلة مقلدة من عملات البلدان التي يغزوها، لأجل شراء حاجات الجيش الغازي بتلك القصاصات الورقية ولزجّ البلد المنكوب في جحيم التضخم والغلاء الفاحش وفقدان المواد المعيشية الضرورية.
ـ2ـ حينما وصلت القوات الإسرائيلية الغازية الى مشارف الضاحية الجنوبية وبيروت الغربية، في عدوان 1982، واجهت مقاومة بطولية شديدة من المقاومة المشتركة الوطنية اللبنانية ـ الفلسطينية، من الأوزاعي ومثلث خلدة الى معابر المتحف والسوديكو والأسواق والمرفأ. وحينذاك عمد الجيش الإسرائيلي بالتعاون مع عصابات "السيادة اللبنانية" المزعومة، أي قوات "الكتائب اللبنانية" و"القوات اللبنانية" (اللبنانية جدا جدا!) الى فرض الحصار التمويني على بيروت الغربية والضاحية لأكثر من ثمانين يومًا، وقطعوا عنها الماء والكهرباء، ومنعوا وصول الخبز والمواد الغذائية والمحروقات والأدوية، وارتفعت الأسعار بشكل هائل (سعر كيلو البطاطا المهربة ارتفع من نصف ليرة الى أكثر من 15 ليرة).
وفي صيف 2006، وبالتواطؤ التام بين الامبريالية الاميركية والغربية، والسعودية وأذنابها الخليجية، والطابور الخامس اللبناني، شن العدو الإسرائيلي عدوانه الغاشم على لبنان، بقصد إعادة احتلال الأراضي اللبنانية، وسحق المقاومة الوطنية الإسلامية البطلة بقيادة حزب الله. ولكن العدوان فشل فشلًا ذريعًا. وكادت الحرب تنقلب من تهديد لسيادة لبنان، الى تهديد لوجود "اسرائيل". ولأول مرة في تاريخها، طلبت "اسرائيل" أولا وقف اطلاق النار. وذهبت سدى دموع فؤاد السنيورة، و"مناحات" أمين عام "14 اذار" فارس سعيد.
وبعد فشل المؤامرة الدولية ضد سوريا، والمشاركة البطولية لحزب الله في رد خطر وصول موجة الطاعون التكفيري ـ التركي ـ السعودي ـ الاميركي الى لبنان، اتجه المعسكر الامبريالي الاميركي والغربي الى فرض الحصار الاقتصادي (المالي والتجاري) الحالي على لبنان، لتجويع المواطنين اللبنانيين واجبار القوى الوطنية، على الاستسلام.
ووضع لبنان اليوم هو أشبه بوضع المناطق "اللبنانية" أثناء المجاعة في الحرب العالمية الأولى. واذا كنا لا نعاين حتى اليوم مشهد جثث الموتى من الجوع والمرض على الطرقات، كما حدث في نهاية العهد العثماني، فإننا نشهد مجزرة التهجير وتفريغ لبنان من غالبية اللبنانيين، والعمل لتحويل لبنان الى "معسكر لاجئين كبير" يضم من يتبقى من اللبنانيين المفقرين حتى الجوع، واللاجئين الفلسطينيين، والنازحين السوريين، يعيشون على المساعدات الانسانية الدولية و"الاخوية".
واليوم يضع الطابور الخامس لبنان بين خيارين:
إما التدويل ووضع لبنان تحت احتلال قوات متعددة الجنسية ووصاية "أممية" تضمن "حياد" لبنان عن الصراعات الإقليمية، وخصوصًا ـ بالطبع ـ الصراع مع "اسرائيل".
وإما اللجوء الى طلب المساعدة من صندوق النقد الدولي، والخضوع لشروطه المالية والسياسية والأمنية والعسكرية، العلنية والسرية، وعلى رأسها طبعًا نزع سلاح المقاومة وتسليمه، وتطبيق اتفاقية هدنة 1949 الضامنة لأمن "اسرائيل"، وفك أي ارتباط لبناني مع سوريا والبلاد العربية، إلا من خلال العلاقات "الأخوية" مع النظام السعودي وغيره من أنظمة "السلام" والتطبيع مع "اسرائيل".
ولكن الغباء التاريخي لجوقة الطابور الخامس اللبناني المتصهين والمتسعود، يجعل جهابذة هذه الجوقة يجهلون أو يتجاهلون أن القوى الوطنية والاسلامية الصادقة والمناضلة، وعلى رأسها المقاومة بقيادة حزب الله، تدرك تمامًا أن "هيئة الاركان" التي تقود الحرب الاقتصادية التي تشن على لبنان المقاوم، في المرحلة الراهنة، إنما تتمثل على وجه التحديد في صندوق النقد الدولي بالذات.
فهذه المؤسسة المالية الدولية وتوابعها (البنك الدولي واضرابه) انشأتها الامبريالية الاميركية بقرارات من مؤتمر بريتون وودز في النصف الثاني من سنة 1944 عشية نهاية الحرب العالمية الثانية، والذي تقرر فيه اعتماد الدولار الورقي بوصفه العملة الدولية الرئيسية. وقد عُهد الى صندوق النقد الدولي ادارة النظام المالي العالمي الموحد الجديد، بقيادة الامبريالية الاميركية وشريكتها العضوية الطغمة المالية اليهودية العالمية. وقد اضطلعت عائلة روتشيلد اليهودية العالمية بدور الهيكل العظمي ودماغ المنظومة المالية العالمية الدولارية الجديدة وعلى رأسها صندوق النقد الدولي.
ومنذ 1945 وحتى اليوم، أدار صندوق النقد الدولي كل العمليات المالية الداخلية والخارجية للدولة الأميركية ولليهودية العالمية، والجانب المالي والاقتصادي لجميع الحروب والانقلابات والاضطرابات والاغتيالات الكبرى والانقلابات و"الثورات الملونة"، التي قامت بها الإمبريالية الأميركية والغربية و"اسرائيل"، في كل أنحاء العالم.
وصندوق النقد الدولي هو الذي "يغطي" ويدير:
ــ غسيل "الأموال القذرة" في العالم، التي تقدر بعشرات الوف مليارات الدولارات.
ــ جميع عمليات الاقتصاد المشبوه والاجرامي.
ــ جميع الشبكات العالمية لتجارة المخدرات، والقمار، والأعضاء البشرية.
ــ تزويد أوروبا وأميركا باللاجئين البؤساء واليد العاملة الرخيصة.
ــ وكل ما يخطر على البال من الجرائم ضد الانسانية.
ومن أبرز "الانجازات التاريخية" التي حققها صندوق النقد الدولي، بالتعاون مع المخابرات الأميركية والإسرائيلية والتركية والسعودية:
ـ1ـ "شراء" مجموعة من الجنرالات الخونة، بقيادة الجنرال فضل الله زاهدي، في ايران، وتنظيم الانقلاب ضد حكومة محمد مصدق الوطنية في 1953.
ـ2ـ تمويل انقلاب الجنرال محمد سوهارتو وعدد من القادة "الاسلامويين" المرتبطين بالسعودية، ضد الزعيم الوطني الاندونيسي احمد سوكارنو. وقد عمد الانقلابيون حينذاك الى ابادة اكثر من 500 الف شيوعي اندونيسي، كانت خطيئتهم المميتة انهم اكتفوا باعلان التأييد السياسي للنظام الوطني لسوكارنو، ولم يحملوا السلاح دفاعا عنه.
ـ3ـ تمويل عمليات الانقلاب و"الثورات الملونة"، المعادية للاشتراكية ولروسيا، في دول الاتحاد السوفياتي والمنظومة السوفياتية السابقين.
ـ4ـ تمويل الجماعات العميلة والمشبوهة، "الاسلاموية" و"الدمقراطية" و"الليبيرالية"، في ما سمي "الربيع العربي" المشؤوم.
ـ5ـ تمويل الجيش التكفيري الدولي، الذي بلغ عشرات الوف المقاتلين الأجانب، ضد الدولة السورية، لتمزيقها ومحاولة اقامة دولة تكفيرية على اراضيها، موالية للسعودية وتركيا واميركا و"اسرائيل".
والحرب المالية ـ الاقتصادية التجويعية ضد الشعب اللبناني اليوم، هي حرفيًا وعمليًا بإدارة وتمويل صندوق النقد الدولي بالذات. ومن الغباء المطلق الاعتقاد أنه يمكن أن تسقط شعرة من رأس أي "ملياردير دولاري" لبناني، تابع أو موال للسعودية أو فرنسا أو أميركا، أو أي متنفذ مصرفي لبناني، أو حتى أصغر صراف دولار في أي زاروب من زواريب بيروت، بدون اذن وتخطيط مسبق من قبل صندوق النقد الدولي.
وان هدف الحرب الدولارية اليوم ضد لبنان، هو تشريد غالبية الشعب اللبناني "العنيد"، وتحويل الأرض اللبنانية الجميلة، الى خط دفاع أول للكيان الاسرائيلي، والى مركز للمافيات الدولية.
ولخلاص لبنان اليوم ليس المطلوب الخضوع والاستسلام لصندوق النقد الدولي، ولعائلة روتشيلد اليهودية، ولأميركا والسعودية و"اسرائيل"، بل المطلوب هو الخروج من منطقة الدولار المالية العالمية، وتوجه لبنان مرة وإلى الأبد نحو مشرق الشمس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024