معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

المكونات الثلاثة المميتة للكيانية اللبنانية السائرة الى الانهيار
15/04/2021

المكونات الثلاثة المميتة للكيانية اللبنانية السائرة الى الانهيار

صوفيا ـ جورج حداد

بعد مضي مئة سنة وسنة على تأسيس "دولة لبنان الكبير" لصاحبها الجنرال الفرنسي الغازي هنري غورو، فشلت هذه التركيبة، فشلًا ذريعًا، في تحقيق الهدف الجيوستراتيجي الأساسي الذي أوجدت لأجله بنظرنا، وهو إنشاء "وطن قومي مسيحي متصهين"، تلتقي فيه وتتدامج مصالح الامبريالية الفرنسية والكتلة المالية الاحتكارية العالمية الأوروبية، مع مصالح اليهودية العالمية، على غرار ـ وفي تسابق مع ـ انشاء "الوطن القومي اليهودي" في فلسطين، الذي التقت فيه وتدامجت مصالح اليهودية العالمية مع مصالح الامبريالية البريطانية (ولاحقا الاميركية) والكتلة المالية الاحتكارية العالمية الانجلو ـ ساكسونية، البروتستانتية.

وعبثا تحاول فرنسا الاستعمارية الآن انقاذ سفينة الكيانية اللبنانية المفككة من الغرق. والأقرب إلى المنطق التاريخي القول إن فرنسا الاستعمارية ذاتها ستغرق، قبل أن تستطيع انقاذ الكيانية اللبنانية من الغرق. ويجمع غالبية المحللين الآن على القول إن الأزمة اللبنانية الراهنة ليست أزمة مرحلية، بل هي أزمة وجودية تمامًا، عنوانها: هل تكون أو لا تكون الكيانية اللبنانية الراهنة؟

وهذا ما يجعل أرباب الكيانية اللبنانية الطائفيين ـ المذعورين حتى العظم ـ ينحطون الى درجة رفض الاوكسيجين المقدم من سوريا لمساعدة المصابين بوباء كورونا، واتلاف ألوف أطنان الطحين المقدم من العراق مساعدة للشعب اللبناني، ورفض شراء الوقود بالليرة اللبنانية من قبل العراق وايران، والامتناع عن قبول عروض التنمية الكبيرة، غير المشروطة، المقدمة من قبل الصين وروسيا. وكل هذه الجرائم ضد الشعب اللبناني ترتكب باسم "السيادة اللبنانية" المزعومة، والمحافظة على الهوية "الحضارية" الغربية للبنان.

وهذا ما يدفع الكيانيين ـ الطائفيين اللبنانيين، بدلا من كل ذلك، الى رفع شعار "الحياد" المزعوم، وفصل لبنان عن محيطه وانتمائه العربي، إلا من خلال أنظمة التطبيع مع "اسرائيل"، وحتى الى المطالبة بـ"تدويل" لبنان، واستدعاء الاحتلال الأجنبي للأراضي اللبنانية بحجة الحفاظ على "حياد لبنان" و"السيادة اللبنانية" المزعومة.

وكيفما كانت مخارج الازمة الراهنة لتشكيل الحكومة في لبنان، فإن ذلك لن يلغي ـ بل سيؤكد بشدة أكبر ـ الطابع الوجودي لأزمة الكيانية اللبنانية. وأي تحليل علمي ـ تاريخي وموضوعي لهذه الأزمة ينبغي أن يأخذ بالاعتبار، وينطلق، من المكونات السرطانية الثلاثة التي كُوّنت منها الكيانية اللبنانية، المعادية في الجوهر لوجود وحياة الجماهير الشعبية اللبنانية بمختلف فئاتها وطوائفها. وهذه المكونات السرطانية هي:

1- الطائفية.
2- الخيانة الوطنية.
3- الفساد.

ولا بد من التأكيد أن هذه "الخصال" الثلاث لا توجد بشكل منفصل واحدة عن الاخرى، بل توجد بشكل متصل عضويًا بعضها ببعض. فكل طائفي هو في الوقت ذاته خائن وطنيا وفاسد ـ مفسد. وكل خائن وطنيا هو فاسد وطائفي. وكل فاسد هو طائفي وخائن وطنيا. وهذه القنوات القذرة الثلاث تصب في مستنقع الارتباط والتبعية بالاستعمار والامبريالية والصهيونية.

وقد وجدت الكيانية اللبنانية بهذه المكونات السرطانية الثلاثة ليس صدفة واعتباطا، وليس دفاعًا أو ضمانًا لمصلحة أي فئة أو طائفة لبنانية، بل كأدوات ووسائل رئيسية لإنتاج مشروع "الوطن القومي المسيحي المتصهين" وملاحقه وزعانفه من الطوائف الأخرى، تحت شعارات "العيش المشترك" و"الميثاق الوطني" و"الدمقراطية التوافقية". ووجود الكيانية اللبنانية هو متلازم مع وجود مكوناتها. فاذا ما سقطت هذه المكونات تسقط حتمًا الكيانية اللبنانية.

ولعله من الضروري إلقاء نظرة على طبيعة وجود هذه الكيانية اللبنانية، من خلال كلّ من مكوناتها الوجودية:

اولا ـ لقد قامت الكيانية اللبنانية على "مبدأ أساسي" هو المحاصصة الطائفية.. مع إعطاء "افضلية" للطائفية المسيحية في جناحها الغربي، لما للنخبة القيادية في الطائفية المسيحية الغربية من علاقة تاريخية بالغرب الاستعماري. وكل شيء في الكيانية اللبنانية، حتى تركيب بلاطة رصيف في أي شارع في أي مدينة أو قرية لبنانية، هو مرتبط بالمحاصصة الطائفية. ويسمون ذلك طبعا "التعايش المسيحي ـ الاسلامي" و"الاخاء الديني" و"الرسالة الى العالم" التي يقدمها لبنان، المذكور عشرات المرات في التوراة!!. فالانتماء للكيانية اللبنانية هو مرادف للانتماء الى المحاصصة الطائفية. ولا وجود البتة لهذا "اللبنانهم" إلا بوجود نظام المحاصصة الطائفية، المأخوذ عن نظام الملل والنحل العثماني، وهو النظام الذي كرسه و"عصرنه" و"دستره" الاستعمار الفرنسي وشركاؤه وخلفاؤه.

ثانيا ـ قامت الكيانية اللبنانية على "مبدأ اساسي" ثان هو التبعية والعمالة للاستعمار. فقد أعطيت الكلمة الاولى في "دولة لبنان الكبير" للسياسيين اللبنانيين (الآباء المؤسسين للدولة اللبنانية) الذين ساهموا في تشكيل "فيلق الشرق" في الجيش الفرنسي، أي "القوة المسلحة الفرنسية" المؤلفة من المتطوعين اللبنانيين والسوريين، وهو الفيلق ذاته الذي انبثقت عنه لاحقًا القوات المسلحة للدولة اللبنانية "المستقلة". وقد قاتل "المتطوعون اللبنانيون" الى جانب القوات الفرنسية الغازية في معركة ميسلون في آب/أغسطس 1920، التي أعلن على اثرها "استقلال" "دولة لبنان الكبير"، كما قاتلوا في صفوف القوات الاستعمارية الفرنسية ابان الثورة السورية الكبرى (1925 ـ 1927) التي امتدت الى بعض المناطق "اللبنانية". وقد كتب حسن حمادة في جريدة "الاخبار" في 17 ايلول/ سبتمبر 2019، أن رئيس الجمهورية اللبنانية اميل اده ورئيس مجلس الوزراء خير الدين الأحدب، في 1938، كانا يؤيدان مشروع الوكالة اليهودية العالمية لتوطين اليهود الفارين من المانيا النازية في المنطقة الواقعة بين صيدا وصور، على أن تنضم هذه المنطقة لـ"اسرائيل" المزمع انشاؤها لاحقًا، وذلك مقابل مبالغ من المال. وكان هذا المشروع يحظى بدعم رئيس الوزراء الفرنسي اليهودي ليون بلوم. ولكن المفوض السامي الفرنسي حينذاك دي مارتل، الذي كان يعارض توسيع نفوذ بريطانيا على حساب فرنسا، عطل هذا المشروع ووبخ اميل اده وخير الدين الأحدب.

كما نشر موقع ويكيليكس الفضائحي تقارير انجليزية عن العائلات اللبنانية من كبار الملاكين العقاريين، الذين باعوا اراضيَ مساحتها الوف الدونمات في فلسطين، لليهود. ومن هذه العائلات: آل سرسق، آل سلام،  آل تيان، آل تويني، آل الخوري، آل القباني، مدام عمران، آل الصباغ، محمد بيهم. وان خير الدين الأحدب (رئيس وزراء) وصفي الدين قدورة وجوزف خديج وميشال سارجي ومراد دانا (يهودي) والياس الحاج أسسوا في بيروت، وبالتحديد في 19/8/1935 شركة لشراء الأراضي في جنوب لبنان وفلسطين وبيعها لليهود.
وخلال الاجتياح الاسرائيلي للبنان في 1982، سار الكيانيون "السياديون" اللبنانيون الخونة في ركاب المحتلين وقاتلوا الى جانبهم في بيروت والجنوب وكل لبنان وارتكبوا مجزرة صبرا وشاتيلا.

وحينما فشلت "اسرائيل" في سحق المقاومة سنة 2006، ذرف الخونة اللبنانيون الدموع على هزيمة "اسرائيل".

واليوم، على مشارف الهزيمة التاريخية في المنطقة، للامبريالية الاميركية والغربية و"اسرائيل" والصهيونية، لا يتوانى الخونة الكيانيون عن استدعاء الاحتلال الأجنبي للبنان، تحت شعارات "التدويل" و"الحياد" و"السيادة اللبنانية" المزعومة.

ثالثا ـ في عهد الحكم الأجنبي للمنطقة العربية (ومنها لبنان)، اي في العهد الايوبي، فالمملوكي، فالعثماني، كان النظام الاجتماعي ـ الاقتصادي السائد نظامًا اقطاعيًا استبداديًا من الطراز الشرقي، أي جهاز دولة مستبدة منفصلة وغريبة عن الشعب، وشعب مقهور منفصل وغريب عن الدولة. وكانت علاقة الدولة، بكل اتباعها المحليين (الامراء والولاة والباشاوات والبكوات والاغوات الخ)، بالشعب، علاقة استبداد وقتل وسلب ونهب "خارجي" و"فوقي". وفيما عدا هذا البلاء، كانت جماهير الشعب تعيش نظام اقتصاد طبيعي عائلي وقروي مغلق، يجتر نفسه أو يعيد انتاج نفسه من جيل الى جيل. وكانت المقايضة العادلة والأخلاقية، والتكامل والتكافل الاجتماعي، هي السائدة في علاقات جماهير الشعب: المزارعين والحرفيين والمكارية والتجار الصغار. وفي ذلك النظام كان الفساد مستشريًا في صفوف جهاز الدولة والطبقات الحاكمة والغنية المرتبطة بها. أما الجماهير الشعبية الفقيرة والمظلومة فبقيت محافظة على قيم الشرف والكرامة والاخلاق الشرقية والعربية الاصيلة.

ومع انهيار السلطنة العثمانية، انهار الى الأبد ـ في لبنان ـ نظام الاستبداد الاقطاعي الشرقي. ومع تأسيس "دولة لبنان الكبير"، عملت الادارة الاستعمارية الفرنسية على إحلال النظام الرأسمالي في لبنان، بأبشع وأحط اشكاله، والقائم بكليته على الفساد والإفساد والغش والكذب والرشوة والنصب والاحتيال والسرقة. وفي غضون بضع سنوات، دخلت الرأسمالية (بكل اخلاقياتها المنحطة) في جميع نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والثقافية الخ... في لبنان. وكان الهدف الجيوستراتيجي من ذلك تسهيل مشروع تحويل لبنان الى "اسرائيل ثانية"، عن طريق اضعاف القوة او المناعة الاخلاقية الوطنية والحضارية للجماهير الشعبية اللبنانية، وتحويلها الى "خرقة بالية" ممزقة يمكن للرأسمالية الاحتكارية العالمية، أي الامبريالية، أن تتحكم بها كيفما تشاء.

وإن الأعمى ذاته يرى اليوم أن كل أزمات لبنان المركبة الحالية، من تشكيل الحكومة الى التحقيق المالي الجنائي الى ثمن ربطة الخبز ترتبط بالفساد، وبالدولار، وبحاكمية البنك المركزي، اي ترتبط بالنظام الرأسمالي الذي فرضه في حينه الاستعمار الفرنسي على الكيان اللبناني.
والسؤال التاريخي اليوم هو: هل يمكن لهذه الكيانية اللبنانية أن تستمر بالوجود بدون مكوناتها الاساسية: الطائفية والخيانة الوطنية والنظام الرأسمالي الفاسد؟ وهل يمكن لجماهير الشعب اللبناني أن تستمر في العيش بوجود هذه الكيانية المرتبطة عضويا بالامبريالية الاميركية واليهودية العالمية؟

كاتب لبناني مستقل*

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات