آراء وتحليلات
كيف شكّلت حرب تموز برزخًا بين مرحلتين؟
إيهاب شوقي
لا شكّ أنّ انتصارات تموز أجهضت مشروعًا دوليًا كبيرًا استتر وراء عدوان تموز الصهيوني والذي كان مخططًا ومبيتًا بهدف إزالة العوائق أمام تدشين مرحلة جيو ستراتيجية جديدة عنوانها "الشرق الأوسط الكبير".
ورغم ادّعاء الليبراليين الجدد أنّ هذا المشروع الأمريكي هو مشروع "خيري تنموي" يهدف لإنشاء "شرق أوسط جديد" مبني على حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية الغربية، واتهامهم المشككين بالمشروع بأنهم من "عبيد نظرية المؤامرة"، إلاّ أنّ الفيصل دومًا يكون بالأحداث، إن لم يكن بالمنطق.
فالمنطق يقول أنّ فاقد الشيء لا يعطيه، وأنّ أكبر منتهك في العالم لحقوق الإنسان هو أمريكا، وأنّها لطالما رعت ولا تزال أعتى الديكتاتوريات، بل وأجهضت وحاربت ثورات التحرر!
بينما الحوادث أثبتت أنّ هذا المشروع الأمريكي هو امتداد لوثيقة "هلسنكي" التي ابتكرت أدوات جديدة لمحاربة الاتحاد السوفيتي وخصوم الولايات المتحدة. وأثبتت الحوادث أنّ مخرجات المشروع وأدواته تم استخدامها فيما بعد للتنظير للتبعية لأمريكا وتشويه المقاومات، بل وتصدّرت الصورة فيما بعد فيما عرف بـ"الربيع العربي" حيث نفذت خرائط التقسيم على الأرض بالدم والخراب، بعد أن شوّهت المفاهيم وخلطت بين الثورات المستحقة والإنقلابات الموالية لأمريكا، وحرفت مسارات الشعوب الراغبة في التحرر والديمقراطية بجوهرها الحقيقي.
لا شكّ أن هذا المشروع استهدف خلق "شرق أوسط جديد"، بحيث ينتمي للقطب الأمريكي الأوحد وقتها، وليس مصادفة أنّه يتقاطع مع "قوس الأزمات" الذي حدده بريجنسكي ودعا لجعله سيفًا على خصوم أمريكا.
ولا شكّ أنّ المقاومة في لبنان وجّهت ضربة مبكرة لهذا المشروع، حتى قبل الاعلان عنه رسميًا، وذلك بدحر الاحتلال "الاسرائيلي"، ثم وجهت ضربة قاصمة له في تموز 2006.
وما يجعلنا نذهب للقول بأنّ المقاومة ضربت هذا المشروع، هو أنّ أهم ركائز المشروع هو القضاء على قوى المقاومة والممانعة، وليس فقط عسكريًا، بل وثقافيًا، لتسييد حالة من الاستسلام للمشروع الأمريكي، والاعتراف بالتفوّق الصهيوني، بما يسمح للصهاينة بقيادة المنطقة.
وهنا كان محور المقاومة سدًّا منيعًا وشكّل تناميه إجهاضًا عسكريًا، وثقافيًا، حيث أثبت أن الانتصار على العدو الصهيوني أمر واقع وليس مجرد شعارات، وأنّ السبب في استمرار هذا العدو هو تخاذل (المعتدلين) وليس الفجوة المتصوّرة والتي يتمّ تصديرها في القوّة.
لولا المقاومة في لبنان وغزّة، لكان وهم التفوق الصهيوني استطاع تشكيل حاجز نفسي لبعض الشعوب بما يسمح بإزالة جميع العراقيل التي تمكّن العدو من التطبيع الكامل وفرض الأمر الواقع.
بينما شكلت المقاومة حجة على الأنظمة والشعوب، استطاعت إزالة الحواجز بين الواقعية المدعاة وبين الخيانة والانهزامية.
كما شكّل صمود سوريا أمام الحرب العالمية التي شُنّت عليها، حجّة على الأنظمة التي تحاول التفريق بين منطق حركات المقاومة ومنطق الدولة لتبرير التنازلات والتحلل من الالتزامات بالثوابت.
وشكّل نموذج إيران نموذجًا ثوريًا استطاع تجاوز جميع المحاذير والخطوط الحمر الدولية وتقديم نموذجًا لشجاعة المواجهة ومقاومة الحصار ودعم حركات التحرر رغمًا عن جميع الدعايات والفزاعات.
لا شكّ أنّ نموذج المقاومة كانت له ثمرة كبيرة وعزيزة وفي موقع بالغ الأهمية الاستراتيجية، وهي تتمثّل في المقاومة اليمنية التي قدمت صمودًا اسطوريًا وملاحم عسكرية تاريخية، لتشكل بؤرة مقاومة مهددة لامتداد محور الاستعمار وسيطرته الكاملة على الجزيرة العربية وامتدادها البحري.
انتشرت حركات المقاومة من ايران مرورًا بالعراق وسوريا ولبنان على كامل قوس الأزمة الأمريكي لتعلن أن الأمة لا تخلو من الرجال وأن العدو "الاسرائيلي" مصيره الزوال، وأن الاستراتيجية الأمريكية ستصطدم دومًا بحاجز المقاومة.
وهنا تكمن أهمية حرب تموز والعودة لتحليلها وفقًا لما قبلها وما بعدها، لتتبين عظمتها وعظم ما حققته من معادلات جديدة لا تزال تسيطر، بل وتتنامى وتشكل التهديد الوجودي الأكبر للمشروع الصهيوني، وللوجود الأمريكي بالمنطقة.
ولا شكّ أنّ معركة "سيف القدس"، كانت من أحدث تجليات ثمار حرب تموز، وأنّ المعارك القادمة على كافة جبهات المقاومة، ستتخذ منها الدروس والالهامات وتكتسب منها الثقة والحماسة، حتى قيام معركة التحرير الكبرى التي باتت قريبة.
لا شكّ أنّ حرب تموز شكلت برزخًا بين مرحلة التشكيك في الشعارات إلى مرحلة اليقين بقوة واقتدار المقاومة، وبين مرحلة غرور القوة للعدو إلى مرحلة توازن الردع والرعب، وبين مرحلة الواقعية المدعاة للأنظمة إلى مرحلة التواطؤ الصريح والخيانة المكشوفة.
وكما كانت عملية "الوعد الصادق" دليلًا دامغًا على مصداقية المقاومة وعدم نسيانها لرجالها والوفاء بوعدها مهما طال الزمن، وكانت العملية شرارة الحرب الصهيونية المبيتة، فإنّ وعد المقاومة بزوال (اسرائيل) سيتحقق وقد يسعى العدو للتعجيل بزواله بنفسه بشرارة يفتعلها نتيجة لخطأ أحمق في الحسابات!
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024