معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

جعجع يتنكب دور
24/07/2021

جعجع يتنكب دور "حارس الهيكل المتداعي".. فهل ينجح هذه المرة؟

ابراهيم صالح
ينسب الى السفير السعودي في لبنان وليد البخاري قوله في لقاء ضيق جمعه قبيل أيام مع صحافيين من مؤسسة اعلامية واحدة إن "المملكة تضع في حسابها أنه لم يعد لها حلفاء وأصدقاء موضع ثقتها ومعقد سرها في لبنان يمكن الاتكال عليهم والاعتماد على جهودهم".

هذه الخلاصة الجلية التي تثبت استنتاجا سرى منذ زمن مضمونه أن الرياض بعد الكشف الصريح عن قطيعتها المشهودة مع "الحريرية السياسية" بما تمثل من امتدادات تاريخا وحاضرا، قد قررت الى حد بعيد الانكفاء تدريجا من الفعل والتأثير في الساحة اللبنانية أو التعامل معها على أساس أنها ساحة صديقة ومأمونة الجانب، بل التعامل معها "على القطعة ووفق اللحظة". هذه الخلاصة لها في زوايا العقل السياسي السعودي الخفي ما يوضحه ويستكمله شرحًا وتفسيرًا، ويتجلى ذلك في كلام أطلقه أخيرًا في برنامج "بالمباشر" عبر منصة إعلامية لبنانية، محلل سعودي مأذون له بالكلام واعتاد الظهور ناطقًا باللسان السياسي السعودي وهو العميد المتقاعد حسن الشهري، وجوهر هذا الكلام: ان "رئيس "القوات اللبنانية" جعجع قد صار رجل السعودية الاول في (في لبنان طبعا) هذه المرحلة"، ولم ينس أن يصف استكمالًا الرئيس الحريري بأنه "بلا شخصية ولا كاريزما"، في اشارة الى مدى النظرة السيئة للرياض تجاه من كان يومًا حليفًا موثوقًا.

لم يعد خافيًا أنه ومنذ زمن بعيد يقدم جعجع نفسه على أنه صار الوكيل شبه الحصري للسعودية في لبنان والوكيل الأبرز لعاصمة غربية وتحديدًا واشنطن. وهو نسج على منوال هذا الاعتقاد الذي لا يبذل أي جهد لكتمه أو اخفائه. خطا (جعجع) الخطوات الاولى في رحلة الالف ميل التي يقيم على اعتقاد انه بالغها في يوم لم يعد ميقاته ببعيد وفق ما يشيع في الآونة الأخيرة في أوساط الدائرة الضيقة اللصيقة به.

لم تكن "تظاهرة الامل" التي حرص جعجع على بذل جهد استثنائي لتنظيمها في قصره الفخم في معراب (قلب كسروان) بالتنسيق التام مع السفير السعودي وليد البخاري تحت عنوان التمني على الرياض اعادة النظر في قرارها المفاجىء المتخذ منذ نحو شهرين والقاضي بوقف استيراد المنتجات الزراعية وغير الزراعية اللبنانية، الا خطوة شاءها جعجع أن تكون الأكثر دويًا والأبعد صدى في سياق هذا النهج، واستطرادًا في اطار هذا الخيار السياسي الثقيل الوطأة الذي قرر عن سابق وعي وترصد تنكبه والمضي به مهما كانت الأثمان جسيمة فهو بالنسبة له ربما الرهان الأخير المرجو أن يكون الأكثر اثمارا في مسيرة مغامرات جنونية بدأت قبل أكثر من نصف قرن وقادته في بعض المراحل الى المكوث خلف قضبان سجن اليرزة لنحو 11 عاما بحكم مبرم لا يرقى الشك إليه.

واذا كان حكام الرياض قد وجدوا في جعجع صاحب التاريخ الأكثر اشكالية في الساحة اللبنانية، الضالة المنشودة والمعتمد الموثوق بعدما عز النصير وتفرق "ايدي سبا" شمل عشاق السياسية السعودية، فإن جعجع قد استغرقه على ما يبدو الدور الجديد المناط به، وتقمصه الى حدود غير مسبوقة لدرجة أن حلم تربعه سعيدًا على رأس أكبر كتلة نيابية مسيحية في مجلس النواب المقبل وانزياح أكثرية خصمه اللدود "التيار الوطني الحر" قد بات بالنسبة له تحصيل حاصل. وأكثر من ذلك بات لدى المحيطين به قائمة مطبوعة شبه تامة معززة بالاسماء والارقام والدوائر الانتخابية يتداولونها عن حجم الكتلة النيابية المقبلة والتي ستتخطى (وفق تقديراتهم واستطلاعاتهم) الـ 23 نائبًا حدًا ادنى، مما يوفر لهم عندها فرصة ذهبية ليمسي جعجع عندها مرشحًا أول للرئاسة الأولى ويصير بالتالي أمرًا واقعًا يصعب على الآخرين أن يتجاهلوه على غرار ما حصل  في التجارب السابقة التي سبقت عملية انتخاب الرئيس ميشال عون. وعليه فإن زوار معراب يخرجون باستنتاج أن سيد هذا الصرح يعيش على صهوة هذا الحساب وقد أسره الى درجة يصعب عليه لاحقًا الخروج منه.

والراصد لاداء جعجع في السياسة وفي الشارع منذ لحظة انطلاق حراك 17 تشرين الاول عام 2019 لا بد من أن يخرج باستنتاج جوهره أن كل خطوة خطاها منذ ذلك التاريخ والى حد اليوم انما تصب في هذه الخانة وأنها تمثل بالنسبة له حبل السرة الذي يغذي كل آماله وأحلامه الجامحة.

لذا لم يكن غريبًا على سبيل المثال أن يعلن جعجع أن كتلته النيابية "الجمهورية القوية" قد استنكفت عن تسمية أي مرشح لتأليف الحكومة المنتظرة، وذلك خلافًا لمرّتين سابقتين بادرت فيهما هذه الكتلة الى تسمية نواف سلام ورفضت تسمية الرئيس سعد الحريري.

وثمة تفسيران لهذا السلوك عند العارفين بالطبع التآمري لقائد الحروب الكارثية الخاسرة والهزائم المتتالية.

التفسير الأول أن الرجل إنما يبعث عبر هذا الاداء برسالة الى أسياده الجدد فحواها أنه منسجم تماما مع ما يريدونه على المستوى البعيد. وهو في هذه الحالة يتصرف على أساس أن الرياض قد حققت بخروج الرئيس الحريري من دائرة التكليف بعد تسعة أشهر كل ما ترومه وهو اقفال الابواب أمامه الى الرئاسة الثالثة وأنه استتباعا ما انفكت عند موقفها المعلن سابقا وهي أن لا مرشح معينًا لها.

التفسير الثاني انه (اي جعجع) يمضي قدما في رحلة تمايزه عن قائده السابق في حلف 14 اذار أي الرئيس الحريري وأنه بات يغرد تمامًا خارج سربه السياسي. والمعلوم أنها رحلة بدأت في أعقاب عملية الاختطاف التي تعرض لها الحريري في جدة عام 2017 والتي سببت تباعدًا وتنابذًا مشهودًا بين الطرفين فض معه الحريري التجاوب مع كل المحاولات التي بذلت لطي صفحة الخلاف وإعادة الأمور الى مجاريها السابقة.

وفي كل الحالات يتصرف جعجع على أساس أن كل المكونات الأساسية في البلاد تراوح في أزماتها الخانقة بفعل الفجوة العميقة بينها وبين الشريحة الأوسع من الجمهور اللبناني بعد التداعيات الاجتماعية والاقتصادية للانهيارات الأخيرة، واستطرادًا بفعل سيف العقوبات المالية الغربية الذي وقع على رموز من هذه القوى والتي على وشك أن تمتد لتطال آخرين شاركوا في تجارب الحكم منذ عام 1992 وحتى اليوم (العقوبات الغربية التي يشاع انها ستطال وتشمل ما يقرب من مئة شخصية تنتمي الى كل الفئات).

لذا فالواضح أن جعجع يحرص كل الحرص على النأي بنفسه والبقاء وحيدًا بمعزل عن أي تحالفات وتفاهمات تنسج خيوط علاقة تجمعه وأي مكون سياسي آخر، وهو يتصرف على أساس أن انعزاله عن كل المحيط السياسي سيوفر له فرصة كبرى للابتعاد عن صدارة المشهد من جهة وسيوفر له أيضًا هامشًا أوسع في التحرك والاقدام واتخاذ القرارات بهدف ملء فراغ يفترض أنه سيكون حتمًا في الساحة المسيحية تحديدًا وبهدف وراثة هذه الساحة لكي يعود له ملك سياسي ضاع في بعض حقبات الزمن.

وفي السياق نفسه تأتي اللعبة الاكثر قذارة وخبثا لجعجع والتي عاد إليها مجددًا في الآونة الأخيرة، وهي تمثيل دور رأس الحربة والتصدي لأي محاولات ومساع يعتقد انها تبذل بشكل جدي للتأثير على الهوية الغربية للنظام والتركيبة المالية والاقتصادية في لبنان. لذا نراه يسابق الآخرين في التصدي لقرار وزير الصحة حمد حسن بفتح أبواب الاستيراد للدواء من خارج الوكالات الحصرية المتحكمة بحياة الناس وصحتهم وأرواحهم. وهو بذا انما ينصب نفسه حارسًا للهيكل الغربي بحجة الحيلولة دون وقوع البلاد في يد هويات أخرى ومحاور مختلفة.

باختصار، جعجع أخذ خياراته ولم يعد مضطرًا لأن يداري ويواري انه يلعب لعبة "الصولد"، والأكيد أنها ليست مغامرة مأمونة العواقب وليست رهانات ستنجح، فالعادة انه رجل الرهانات الخاسرة دوما.

سعد الحريريواشنطن

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة

خبر عاجل