آراء وتحليلات
درس دبلوماسي ايراني: قُصة صورة انتهكت سيادة طهران
د. علي دربج باحث محاضر جامعي
من منّا لم يشاهد أو يسمع يوميًا، عن تدخل السفراء والدبلوماسيين الأجانب (خصوصًا الأميركيين والأوروبيين والسعوديين) بكل شاردة وواردة في لبنان الذي أصبح ارضًا مستباحة لهم، بحيث بات سلوكهم المقيت هذا، جزءًا أساسيًا من الحياة السياسية اللبنانية، يتحكمون بمفاصل القرار بهذا البلد، على كافة الصعد، السياسية والأمنية والعسكرية والمالية والاقتصادية.
المُخزي في الأمر، أن هذه الانتهاكات والإهانات الفاضحة لسيادة لبنان واستقلاله، ترتكب وتمر في بلدنا، مرور الكرام، دونما حسيب أو رقيب، في ظل صمت مريب من قبل فريق يتشدّق بالسيادة ليل نهار، ويضم معظم أركان السلطة السياسية ومعها جيش من الرؤساء والوزراء والنواب والقوى السياسية والحزبية، فضلًا عن أغلبية وسائل الاعلام، اضافة الى شريحة لا بأس بها من اللبنانيين الذي باتوا لا يرون في السيادة سوى شعارات جوفاء يرددونها في خطاباتهم الشعبوية، ومعاركهم "الفيسبوكية" أو "التويترية".
وعلى سبيل المقارنة، فلو عدنا الى شواهد تاريخية حديثة، لوجدنا أن هفوات وربما أخطاء صغيرة لدبلوماسيين (سواء كانت متعمّدة أم لا)، في دول ذات سيادة حقيقة، ولّدت أزمات دبلوماسية، وأحيانًا أطاحت بسفراء كانوا معتمدين لديها، وتم طردهم مباشرة، وقطعت العلاقات نهائيًا مع بلدانهم، وجرى وضعهم على اللائحة السوداء لمنعهم من الدخول اليها مجددًا، بسبب مخالفتهم الأعراف والقواعد والقوانين والمعاهدات والاتفاقيات الدولية لا سيما اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية للعام 1961، والتي تنصّ جميعها على ضرورة "احترام الدبلوماسي لسيادة وعادات وتقاليد البلد المنتدب اليه، والالتزام بقوانينه وعدم الإساءة لشعبه، والامتناع عن التدخل في شؤونه الداخلية".
وبعيدًا عن الانفعالات العاطفية، أو الحسابات الطائفية أو المصلحية الضيّقة، أو النظرة العدائية التي يكنّها قسم من اللبنانيين لإيران وقيادتها، فإن ما جرى في هذا البلد (اي ايران) خلال الأيام القليلة الماضية وكاد أن يؤدي إلى أزمة دبلوماسية بين طهران من جهة، وكل من روسيا (حليفة ايران) وبريطانيا يستحق التوقف عنده، كونه يشكل درسًا ــ جديرًا بالحفظ والتأمل ــ في كيفية تعاطي الجمهورية الاسلامية مع سفراء الدول الكبرى، الذين وجدت طهران انهم أساؤوا لشعبها وتاريخها ولم يحترموا سيادتها.
في 12 آب الحالي، استدعت إيران السفيرين البريطاني والروسي لظهورهما في صورة فوتوغرافية لمناسبة إحياء ذكرى اجتماع قادة الحلفاء في طهران خلال الحرب العالمية الثانية. تذكّر هذه الصورة، التي نشرتها السفارة الروسية على تويتر في 11 آب، بصورة جماعية قديمة، تعود الى الحرب العالمية الثانية، وضمت حينها كلًا من الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين، ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، والرئيس الأميركي فرانكلين ديلانو روزفلت، خلال مؤتمر طهران عام 1943.
في الصورة الحديثة (سبب الاستدعاء) الملتقطة في طهران، يظهر السفير الروسي ليفان دزاغاريان، وزميله البريطاني سيمون شيركليف، وقد واتخذوا نفس الوضعية تقريبًا (من حيث طريقة الجلوس والنظرات المتعجرفة) التي كان قد اتخذها ستالين وتشرشل، فيما تُرك المقعد الافتراضي الخاص بالرئيس الاميركي، والذي جلس عليه روزفلت سابقًا، شاغرًا.
أساءت هذه الصورة للإيرانيين، لأنها استحضرت ذكرياتهم السيئة والأليمة، المتمثلة بغزو الحلفاء لإيران واحتلالها خلال الحرب العالمية الثانية. ففي اب 1941، غزت بريطانيا والاتحاد السوفياتي إيران، ــ وكانت آنذاك دولة محايدة ــ لحماية خطوط إمداد الحلفاء إلى الاتحاد السوفياتي وتأمين حقول النفط الإيرانية. استولت الدولتان على طهران في غضون أسبوع، وقسمتا البلاد إلى منطقة شمالية يحتلها الاتحاد السوفياتي، ومنطقة جنوبية تحتلها بريطانيا. بالنسبة للحلفاء، كان الاستيلاء على إيران وما تلاه من مؤتمر طهران علامات بارزة في الحرب.
وفي العام 1943، التقى "الثلاثة الكبار" - ستالين وتشرشل وروزفلت - شخصيًا لأول مرة في طهران، ووافقوا على فتح جبهة ثانية في أوروبا الغربية بغزو فرنسا التي احتلها النازيون، بحلول ربيع عام 1944.
أثارت الصورة غضب مختلف الأطياف الشعبية والسياسية والاكاديمية في الجمهورية الإسلامية، حيث طالب إيرانيون على مواقع التواصل الاجتماعي بطرد الدبلوماسيين من البلاد. وغرد سيد محمد مراندي، الأستاذ بجامعة طهران، في 11 آب ، قائلاً: "السفراء يهينون كل الإيرانيين. كان مؤتمر طهران انتهاكًا للسيادة الإيرانية ورمزًا للجرائم التاريخية التي ارتكبتها الولايات المتحدة وروسيا والمملكة المتحدة ضد الإيرانيين".
أكثر من ذلك، ندد وزير الخارجية المنتهية ولايته جواد ظريف، بالصورة ووصفها بأنها "غير ملائمة للغاية"، وكتب في تغريدة على "تويتر" في 11 آب، قائلًا إنه في "ظل حكم الجمهورية الإسلامية، أظهر الإيرانيون أن مصيرهم لا يمكن أبدًا أن يخضع لقرارات في السفارات الأجنبية أو من قبل القوى الأجنبية". بدوره قال خلف ظريف، حسين أمير عبد اللهيان، وزير الخارجية الجديد في حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي، إن الصورة "أظهرت استهزاء بالآداب الدبلوماسية والاعتزاز الوطني للشعب الإيراني".
وعلى المنوال ذاته، طالب رئيس مجلس النواب محمد باقر قاليباف، الدبلوماسيين الروس والبريطانيين "بالاعتذار بسرعة وبشكل رسمي"، وحذر من أن "عدم القيام بذلك سيؤدي إلى رد دبلوماسي حاسم".
بالمقابل، أوضحت السفارة الروسية أن "الصورة كانت تهدف إلى "تكريم" جهود الحلفاء الحربية خلال الحرب العالمية الثانية لكنها لم تصل إلى حد إصدار اعتذار علني". وكتبت السفارة على تويتر في 11 آب: "نود أن نلاحظ أنه ليس لديها أي سياق معاد لإيران". من جهته أعاد السفير البريطاني شيركليف تغريد التفسير الروسي، لكنه لم ينشر أيًا منه علنًا.
عمليًا، فشلت الرسالة الدبلوماسية في تهدئة المخاوف الإيرانية. في 12 آب، استدعت وزارة الخارجية كلا السفيرين. وأكد السفير دزاغاريان أن "الهدف من الصورة هو تكريم الوحدة الروسية البريطانية ضد الجيش النازي"، بحسب بيان طهران للاجتماع. من جهته قال علي رضا هاغيغيان، المدير العام لأوراسيا في وزارة الخارجية الايرانية، لدزاغاريان إن "نشر مثل هذه الصورة، حتى لو كان بنفس النية التي أوضحها السفير الروسي، غير مقبول".
كما أفادت وزارة الخارجية الإيرانية أن السفير شيركليف أعرب عن "أسفه إزاء سوء التفاهم وقال إنه لا توجد نية سيئة وراء الصورة". وقال بيمان سعدات، المدير العام لأوروبا الغربية في الخارجية الايرانية، لشيركليف: "لقد أثبت شعب إيران العظماء عبر التاريخ أنهم يرفضون بشدة أي تحرك ينطلق من أفكار متعجرفة وسيقاومونها".
الملفت، أن الحادث الدبلوماسي وقع بعد وقت قصير من وصول السفير البريطاني الجديد إلى طهران في 10 آب. عاش شيركليف سابقًا في إيران من العام 2000، حتى العام 2003، أثناء عمله كمسؤول سياسي في السفارة البريطانية في طهران، وهو أول منصب له في الخارج. وقال باللغة الفارسية في مقطع فيديو يعلن فيه وصوله: "بصفتي سفيرًا، أرى أن هناك العديد من الفرص والتحديات التي تنتظرنا في العلاقة بين المملكة المتحدة وإيران بكل تاريخها الطويل والمعقد".
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024