معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

قراءة في حكومة
17/09/2021

قراءة في حكومة "طالبان" المؤقتة: عودة الحرس القديم وحصّة لقطر

د. علي دربج - باحث ومحاضر جامعي
بعيدا عن حفلات التطبيل والتهليل وحملات الترويج  لما يحلو للبعض ان يسميه النسخة الجديدة لـ"حركة طالبان" غداة سيطرتها على افغانستان بعد الانسحاب الاميركي من هذا البلد، والادعاء بحصول تغيرات في النهج السياسي للحركة وسلوكها على الارض، وتبدل نظرتها الى عدد من القضايا المتعلقة بالمشاركة في الحكم، والاعتراف بحقوق الاقليات والمرأة وانصافها، والتعامل بواقعية مع المجتمع الدولي، فإن قراءة موضوعية لما آلت اليه عملية تشكيل الحكومة المؤقتة والشخصيات التي ضمتها، يشي بخلاف ذلك تماما، فمزاعم طالبان اقرب الى الوهم منها الى الحقيقة.

عمليا، جلّ ما فعلته طالبان هو تلطيف خطابها وجعله اكثر نعومة، بهدف تجميل صورتها ومحو تهمة التشدد والتكفير والبطش واضطهاد المكونات الطائفية والعرقية المخالفة لعقيدتها الدينية، والتي اضرت بها وطبعت صورتها، وسلبتها الشرعية الدولية، ابان حكمها لأفغانستان في تسعينيات القرن الماضي.

لنبدأ بالتشكيلة المطروحة. تتكون الحكومة المؤقتة التي أعلنت عنها "طالبان" بالكامل من أعضاء القيادة العليا للحركة. هنا ثمة خيبة مُني بها المراهنون على تبدل تعاطي الحركة، وتتمثل بعدم ذكر اسم أي امرأة، فضلا عن انه لم يتم ربط أي سياسي بارز بالحكومة السابقة، على الرغم من الاجتماعات التي حظيت بالإشادة العلنية التي عقدتها طالبان مع شخصيات مثل الرئيس السابق حامد كرزاي أو رئيس جهود المصالحة عبد الله عبد الله.

على مستوى المشاركة السياسية، وعند التدقيق في توزيع المقاعد، نرى ان الممارسة الطالبانية المتعلقة بنظرتها الى المكونات والاطياف الافغانية الاخرى القائمة على التهميش والالغاء بقيت على حالها، فهناك ثلاثون من أصل 33 شخصية تم تعيينهم في مناصب عليا هم من البشتون، على الرغم من أنهم يشكلون فقط ما يقرب من 40-45 في المائة من سكان البلاد. وبغض النظر عن مزاعم طالبان تنويع عضويتها لتشمل جميع الأعراق ـ والحملة السريعة هذا الصيف التي استولت خلالها على المناطق الشمالية ذات الأغلبية غير البشتونية في البلاد ـ  فإن تشكيل الحكومة يعكس عدم التوازن العرقي الطويل الأمد على أعلى مستويات قيادة طالبان، التي ظلت ثابتة إلى حد كبير منذ تأسيس الحركة.

الامر الملفت الاخر الذي يجدر التوقف عنده، هو الحضور الوازن للحرس القديم والذي ترجم بترؤس الملّا محمد حسن للحكومة، مع انه ليس معروفًا جيدًا للمراقبين الدوليين ولكنه يحظى باحترام كبير داخل طالبان باعتباره أحد المقربين للزعيم المؤسس الملا محمد عمر، وقد تربع على رئاسة مجلس قيادة طالبان خلال معظم  فترة "تمردها".

الخلطة الطالبانية المثيرة للجدل، جمعت فيما بدا بالأضداد من حيث التصنيف السياسي، فمن جهة ضمنت حصّة قطر ــ الوكيل الاميركي المعروف والذي دخل على خط الملف الافغاني بقوة، واصبح لاعبا مؤثرا في افغانستان، على حساب النفوذ الاماراتي ــ السعودي التاريخي ــ  وذلك عبر تعيين الملا عبد الغني برادر النائب الأول لرئيس الوزراء، وهو أحد نواب أمراء طالبان الثلاثة، ورئيس مكتبهم السياسي في الدوحة.

ومن جهة ثانية، اشتملت الحكومة على شخصيات مستفزة سيئة السمعة داخليا ودوليا، فضلا عن انها موصومة بالإرهاب، وهو ما رأيناه من خلال تعيين نائبي الأمراء الآخرين في مناصب حيوية: سراج الدين حقاني، أحد المطلوبين لدى مكتب التحقيقات الفدرالي وزعيم شبكة حقاني سيئة السمعة على القائمة السوداء للولايات المتحدة، وهو الآن وزير الداخلية (وتعرف شبكة حقاني بقربها من "تنظيم القاعدة" وتنفيذ عمليات انتحارية عدة، كما نسب إليها عدد من أعنف الهجمات في أفغانستان خلال السنوات الأخيرة،) وربما ارادت بذلك توجيه رسائل طمأنة الى التنظيمات التكفيرية الاخرى، فيما اعطي محمد يعقوب، المشهور في الحركة باعتباره الابن الأكبر للملا عمر، منصب وزير دفاع.

لم يعلن أمير طالبان الشيخ هيبة الله أخوندزاده صراحة عن دوره أو شرحه في المؤتمر الصحفي الذي أعلن فيه عن حكومة تصريف الأعمال، لكن شخصيات طالبان الحاضرة، أكدت أن الحكومة بأكملها سيشرف عليها هيبة الله. بعد ذلك مباشرة، بدأت قنوات وسائل الإعلام التقليدية والاجتماعية لطالبان بالاحتفال باستعادة "إمارة أفغانستان الإسلامية"، وهو نفس اسم نظام "طالبان" الذي حكم معظم البلاد من عام 1996 إلى عام 2001، وعرفت به الجماعة طوال فترة وجودها في "التمرد".

كان هناك قدر كبير من التكهنات حول درجة الجدل أو حتى الاقتتال الداخلي ـ كما وصفه البعض ـ بين شخصيات وعناصر مختلفة داخل طالبان حول من يجب أن يتسلم المناصب. ومع ذلك، كانت مداولات الحركة حول تشكيل هذه الحكومة المؤقتة غامضة بشكل مميز، وحتى الآن لا توجد إشارات واضحة للعالم الخارجي على أي شيء سوى جبهة موحدة بين الرتب العليا في طالبان، لكن المستقبل قد يحمل مفاجآت متوقعة.

في الواقع، تم تخصيص الوزارات، إلى حد كبير، وفقًا للأدوار المتكافئة تقريبًا التي يشغلها القادة حاليًا في الشورى الرحبري (مجلس القيادة). كان حقاني ويعقوب يقتسمان بالفعل السلطة على الشؤون العسكرية والأمنية لطالبان في جميع أنحاء البلاد، وهو ترتيب يبدو أن تعيينهما وزيرين يعززه. في حين بدا أن بعض الإعلانات تشير إلى تخفيضات أو ترقيات لأفراد معينين، فإن كل شخصية تمت تسميتها في الحكومة المؤقتة لطالبان هي بالفعل عضو في مجلس قيادة الجماعة. اكثر من ذلك، شغل عدد كبير من المعينين الجدد مناصب عليا في إمارة التسعينيات.

اما بالنسبة لأي اختلال متصور في حكومة طالبان الجديدة، مثل التمثيل الكثيف لشخصيات من بعض الاتحادات القبلية المتجذرة في جنوب أفغانستان (مقابل قواعد القوة الأخرى للحركة مثل المناطق الجنوبية الشرقية أو الشرقية من البلاد)، فإن هذه الاختلالات موجودة منذ فترة طويلة في مجلس القيادة، الذي يبدو أن تكوينه مدعوم إلى حد كبير بالتعيينات الرسمية.

أحد الاتجاهات الجديدة الملحوظة هو الوزن الذي يبدو أنه قد أُعطي للأفراد من ذوي الخبرة في الخدمة في إحدى الوزارات في الإمارة في التسعينيات. تُرِك عدد قليل من القادة العسكريين البارزين، بتأثيرهم على المجموعة في مرحلة التمرد، من دون مناصب في مجلس الوزراء الذي لا يقدم سوى عدد قليل من الأدوار التي تركز على الأمن. وربما لا ينبغي اعتبار حكومة تصريف الأعمال التابعة لحركة طالبان "غنائم حرب" ليتم تقسيمها بمرارة بين الفصائل، كما كانت الامور سائدة خلال سنوات حكم الحكومات الأفغانية المدعومة من الولايات المتحدة في كثير من الأحيان. بل يجب النظر إليها على أنها ممارسة لإضفاء الشرعية على أدوار التمرد في زمن الحرب، والارتقاء بها من قبل الكثيرين في مجلس القيادة، إلى مرتبة الوزارات الحكومية ذات السيادة.

وبالعودة الى عدم تعيين طالبان أي امرأة في حكومتها الجديدة، وكذلك الحال ايضا بالنسبة للأقليات العرقية التي ضمت عددا قليلا منها، فحتى هؤلاء كانوا بالفعل شخصيات بارزة داخل الحركة نفسها. كان الهدف من دعوات المجتمع المدني الدولي والأفغاني للشمولية، هو أن تشمل الانتماء الأيديولوجي والمؤسسي بالإضافة إلى التركيبة السكانية الاجتماعية، ولكن لم تكن هناك أي بادرة نحو الشمولية في الحالتين من قبل طالبان.

قراءة في حكومة "طالبان" المؤقتة: عودة الحرس القديم وحصّة لقطر

عندما سئل المتحدث باسم طالبان عن الوعود المتكررة التي قطعوها على أنفسهم خلال العام الماضي بأنهم يسعون إلى تشكيل "حكومة شاملة" تخدم جميع الأفغان، أجاب فقط بأن هذه التعيينات مؤقتة لكنه لم يذكر المدة التي ستقضيها الحكومة في الخدمة أو ما الذي سُيعجّل بتغييرها. وأشار بعض المراقبين إلى أن "إنشاء الإمارة الإسلامية الأصلية لحركة طالبان في عام 1996، صيغ أيضا بلغة الانتقال والوضع المؤقت"، على الرغم من أن هيكلها لم يتغير كثيرا حتى الإطاحة بها من خلال التدخل الأميركي في أواخر عام 2001.

إن الطريقة التي يتم بها الحكم على حركة طالبان من حيث انخراطها في التعامل مع النساء والأقليات العرقية ـ ومعاملتها ـ قد يكون أقل ارتباطًا بالتعيينات على مستوى مجلس الوزراء، وأكثر ارتباطًا بمعاملتها على أرض الواقع. حتى الآن، فإن السجل في جميع أنحاء البلاد مختلط ولكنه مثير للقلق. قدمت طالبان تأكيدات بالسلامة والأمن المخصص للاحتفال بأيام عاشوراء المقدسة عند المسلمين الشيعة في كابول وعقدت اجتماعات مع ممثلي مجتمعات السيخ الأفغانية، لكن عددا من حالات الاحتجاز والقتل المبلغ عنها، وقعت في المناطق التي تقطنها أقلية الهزارة العرقية المضطهدة تاريخيا.

سُمح للفتيات في بعض المناطق باستئناف حضور الفصول الدراسية (وحتى الجامعات الخاصة بموجب إرشادات جديدة للفصل بين الجنسين)، لكن في مناطق أخرى بقين مقيدات. صحيح ان النساء عدن الى ممارسة الوظائف والاعمال، خصوصا الرعاية الصحية، بتشجيع من طالبان، لكن العديد منهن أبلغن أيضًا عن تعرضهن للترهيب وتلقّين تعليمات بالعودة إلى ديارهن. قوبلت المظاهرات العامة في كابول والمدن الكبيرة، وخاصة تلك التي تقودها النساء المحتجات من أجل حقوق المرأة، بتحذيرات من طالبان بالتفريق وإطلاق النار وفي بعض الحالات بالضرب.

وقد أشارت مجموعة من تصريحات طالبان إلى أن القيود الحالية، خصوصا فيما يتعلق بالنساء، هي قيود مؤقتة ومُطبقة فقط بسبب البيئة الأمنية (أو حتى، حسب اعتراف أحد المتحدثين، بسبب مخاوف بشأن سلوك مقاتلي طالبان). بعد وقت قصير من إعلان حكومة تصريف الأعمال، أعلنت وسائل الإعلام التابعة لـ "حركة طالبان" أن الاحتجاجات العامة يجب أن يتم الإعلان عنها والموافقة عليها من قبل وزارة الداخلية مسبقًا.

قد لا تبدو طريق الحكم سالكة امام طالبان وخالية من العوائق، فأكبر التحديات التي تواجه طالبان هي اقتصادية وإنسانية. كانت أفغانستان تواجه بالفعل أزمات إنسانية متعددة قبل عودة طالبان إلى السلطة: النزوح القسري بسبب الصراع، وتزايد الفقر وانعدام الأمن الغذائي الحاد، والآثار المستمرة لـ COVID-19 والجفاف على مستوى المنطقة.

وفي الوقت نفسه، قام البنك الدولي وغيره من المؤسسات الدولية بتجميد قدر كبير من التمويل والمساعدات الأجنبية، التي كانت الحكومة الأفغانية السابقة تعتمد عليها بشكل كبير على مدى السنوات العشرين الماضية، كما فعلت مع معظم الأصول السائلة للحكومة السابقة، التي جمدتها الحكومة الأميركية حاليا.

اعترفت حركة طالبان في بياناتها العامة بأنها فوجئت بالسرعة التي انهارت بها الحكومة الأفغانية، مما سمح لها بدخول كابول. وبينما كانوا يحاولون الانتقال فجأة إلى الحكم الوطني بعد عدة عقود من منظور التمرد المسلح، فمن المحتمل أيضًا أنهم يدركون عددًا من التهديدات. وتشمل هذه جبهة المقاومة المسلحة المتمركزة في وادي بنجشير، والتي زعمت طالبان أنها هُزمت لكن لم يتم التحقق منها. وهناك أيضًا الفرع المحلي لتنظيم "داعش" في افغانستان، الذي أثبت قدرته المستمرة على إحداث الموت والدمار الذي تسبب به الهجوم الانتحاري على مطار كابول، اثناء قيام الجيش الاميركي بالانسحاب عبره.

من المرجح أن تختلف الطريقة التي تتعامل بها طالبان مع كل تهديد محتمل ويمكن أن تتطور بمرور الوقت، لكن الحملة العسكرية السريعة لسحق المقاومة في بنجشير، تشير إلى أن الأولويات والمخاوف العسكرية بشأن هذه الحركة ستظل على الأرجح ذات أهمية قصوى على المدى القريب.

لكن ماذا عن تعامل الولايات المتحدة والناتو ودول المنطقة مع الحكومة الجديدة؟.

الأساس بالنسبة  للمجتمع الدولي واميركا، هو الانخراط الكامل لمحاولة بناء إجماع حول أفضل طريقة للتأثير على حكومة طالبان الجديدة لضمان وتوفير الأمن والاستقرار والتمثيل العادل لجميع الأفغان، هذا على المستوى النظري، لكن التاريخ يحدثنا، ان الدول ليست جمعيات خيرية، فلكل واحدة منها اجندتها الخاصة، وافغانستان ليست استثناء في هذا الاطار.

طالبان

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات