معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

صندوق النقد الدولي.. حل أم مشكلة؟
21/09/2021

صندوق النقد الدولي.. حل أم مشكلة؟

هاني ابراهيم

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، كان التوجه على نحو أساس يصبو إلى تحقيق توازن ولو شكلي في النظام الاقتصادي الدولي والعمل على ضرورة ايجاد نظام نقدي دولي تكون فيه الحرية للدول المدينة بعدم اتباع سياسات نقدية منكمشة لحل مشاكلها، خصوصًا عند عجز ميزان المدفوعات لديها، هذا عدا عن تأمين القروض للدول التي تعاني من عجز في ميزان المدفوعات، ومراقبة السياسات النقدية خاصة لتلك الدول التي تعاني من مشاكل اقتصادية.

وبسبب تفوق الولايات المتحدة الأمريكية عسكريًا واقتصاديًا بدأ المصرف الفدرالي الأمريكي بالتعبير عن التزامه بتحويل الدولارات إلى ذهب لأي مصرف مركزي في أي وقت كان، فنجحت الولايات المتحدة الأمريكية في إقرار ذلك من خلال ما يعرف باسم اتفاقية بريتون وودز، وشكل ذلك حيثية لمعيار الذهب، إلا أنه أعطى أيضًا للدولار الأمريكي وزنًا عالميًا، حيث أصبح بالإمكان لأي دولة تحويل الدولار إلى ذهب وفقًا لتلك الاتفاقية.

كان لا بد من ترجمة ذلك من خلال مؤسسة دولية تعنى بهذا العمل، وهو ما ظهر عام 1944 من خلال إنشاء صندوق دولي يعنى بهذا الأمر فكان ما يعرف الآن بصندوق النقد الدولي أو IMF، وذلك الى جانب البنك الدولي للتنمية وإعادة الإعمار.

كان الهدف منه الحؤول دون الوصول الى الكساد العظيم، وكان ذلك عنوانًا لافتًا ودقيقًا على مستوى العالم، بسبب غياب أي آلية لاحتواء العثرات النقدية التي أدت فيما بعد الى انكماش التجارة وتوقف حركة رأس المال، على مستوى العالم. لكن السؤال الذي يطرح في هذا الإطار، هل أدى صندوق النقد الدولي دوره الذي من أجله أسس؟

الكثير من تحليلات خبراء واقتصاديين اجتمعت على جواب واحد متشابه الى حد كبير، وهو أن صندوق النقد الدولي أو الـIMF  لم يمارس الدور الذي يؤدي الى الغاية التي أنشئ من أجلها، بل العكس تمامًا حيث ظهرت الدول الفقيرة والنامية كهدف له وساحة لتدخلاته، خاصة أن العديد من تلك الدول يرزح تحت مديونيات خارجية كبيرة جدًا، استخدمت لسد العجز في موازين المدفوعات لديها، إلا أن مصير ذلك كان الفشل الحتمي  الأمر الذي أدى إلى وصول العديد من البلدان في أمريكا الجنوبية كالبرازيل والأرجنتين الى الإفلاس في الثمانينيات، وأعلنت المكسيك إفلاسها فعلًا في 1982، كما حصل الأمر نفسه في مصر عام 1987.

وعليه، ما كان على هذه البلدان إلا التوجه واللجوء لصندوق النقد طمعًا بالاقتراض ليمكنها ذلك من الإفلات من براثن الإفلاس، ولكن مع التأكيد على أن ذلك لن يحصل إلا مقابل تعهدات بتطبيق إجراءات تقشفية، وعلى رأسها تخفيض العملة الوطنية والواردات وتقليص العجز في الموازنة العامة للدولة، وأمور أخرى عديدة تختلف باختلاف الدول.

لكن يظهر لنا في هذا السياق، تساؤل آخر حول آثار تدخل الصندوق، ما اذا كان يهدف الى اعطاء قروض فقط أم أن هناك ما هو أكبر من ذلك.

لقد تبين وبعد تدخلات عديدة للصندوق، أن آثار ذلك على تلك الدول أكبر بكثير من مجرد الحصول على قروض قصيرة الأجل، كون الهدف والغاية من وراء ذلك هو فتح اسواق العالم النامي أمام حركة التجارة العالمية، وطمس التنمية الموجّهة اي تشجيع الصناعة المحلية بهدف التخفيف من الاستيراد وبالتالي يخفف ذلك حجم الإنفاق الحكومي.

واكثر من ذلك، ذهب الصندوق باتجاه الاستثمار من خلال توسيع نطاق الاستثمارات الأجنبية وتحرير حركتي التجارة ورأس المال وبيع الشركات المملوكة للدولة لصالح القطاع الخاص. كل ذلك ممكن أن نترجمه على الشكل التالي: إعادة صياغة العلاقات داخل تلك الاقتصادات في الدول النامية من جهة وما بينها وبين الاقتصاد العالمي من جهة أخرى.

ونتيجة لذلك كله، ولما قد يولده هذا الأمر من حساسية مفرطة لدى الدول النامية، برزت النظرة السلبية تجاه صندوق النقد، باعتباره أداة من أدوات السياسة الخارجية الأمريكية، صاحبة أكبر حصة في رأس مال الصندوق والمهيمنة على الكثير من سياساته العامة وقراراته، فضلاً عن كونه يهدف لاعتبارات تتناسب مع رغبته بالسيطرة الشاملة بدمج أسواق الدول الفقيرة أو بتعبير آخر النامية في الاقتصاد العالمي، ما يفقد هذه الأسواق التي تكون بطبيعتها صغيرة أو محدودة استقلاليتها.  

التحفظات والتوجهات المناهضة والممانعة لبرامج وتدخلات صندوق النقد الدولي أتت من خلفية قائمة على أساس أننا كبلدان قد تجاوزنا مع الزمن ما يعرف بالتبعية الاقتصادية وسلكنا طريقنا نحو الاستقلالية الى حد ما وبالتالي لا حاجة لنا للعودة الى الوراء. وشكلت توجهات الصندوق إلى حد كبير خلفية اجتماعية وايديولوجية أظهرت بوضوح ما ذكرناه من عدم شعبية البرامج المفروضة من قبل صندوق النقد، والتي كانت تترجم من خلال فرض تكاليف وأعباء عبر قرارات عديدة تجبر الحكومات على اتخاذها كترشيق القطاع العام، إلغاء الدعم، تحرير سعر الصرف، ورفع الأسعار وغيرها من إجراءات التقشف.

وبالتالي، هل يمكن اعتبار أن صندوق النقد الدولي هو الملجأ للدول النامية والفقيرة التي تحاول الخروج من مشاكلها خوفًا من الوصول الى الافلاس الكامل والشامل؟

الجواب عن هذا التساؤل يأتي على نسق سؤال: ما هو برنامج الصندوق وآلية عمله وهل هي آلية واحدة تطبق على كافة الدول أم أنها تختلف باختلافها؟  

إن الصندوق وبالنظر للتجربة القديمة الجديدة له لا يعدو كونه مُقرضًا متاحًا على الساحة لحكومات تقترب من الإفلاس أو تدير اقتصادات أوصلتها اختلالاتها للشلل، وعليه يتبين لنا ان اقصى عمل هذا الصندوق ان يقدم لك مساعدات نقدية. اما البرنامج الاصلاحي فهو يتعلق بالدولة ذات الصلة وبالتالي يقوم الصندوق بالطلب من الدولة ان تقدم له برنامجًا اصلاحيًا وفق رؤية اقتصادية وجدول زمني معين، وبناء على هذه الالية يقدر الصندوق مقدار المساعدة مع ضرورة وجود تعهدات والتزامات.

كل ذلك أبعد الصندوق عن لعب دور أكبر مرتبط  بالتنمية أو هيكل الاقتصاد أو مشاكل توزيع الدخل والثروة أو علاقات الإنتاج، ما جعله كالمصارف التجارية المحلية التي تقرض الافراد مع تعهدات والتزامات توجب على المقترض تنفيذها، مع الاشارة هنا الى ان نظريات كثيرة تقول باستحالة اسقاط مفهوم الافلاس على الدول وان ذلك امر مستحيل حيث انها خارج اطار الافلاس.

كل ذلك يؤدي الى نتيجة واحدة وهي أن الصندوق كأداء قد لا يكون المشكلة، وفي نفس الوقت ليس الحل أيضًا. إلا أنه أداة مؤثرة بطبيعة الحال، لكن ذلك مرتبط بأداء مؤسسات الدولة ومدى كفاءتها في وضع السياسات العامة وتطبيقها، وعلاقة الدولة بالقطاع الخاص، وغيرها الكثير، وهذه الأمور هي التي تحدد سلبية أو ايجابية تدخلات الصندوق في هذه الدولة أو تلك وبالتالي ظهور نتائج متباينة وأحيانًا متناقضة.

لا يشكل صندوق النقد الدولي، بكافة مظاهر القوة التي يمتلكها ويظن البعض بأنها سحر الساحر، إلا حلقة وصل بين دعم مادي لا بد منه للانطلاق في مسيرة يفترض أنها محددة الأوجه والمسارات تضعها الدولة طالبة المساعدة. وعادة تلعب قدرة الدولة على ابراز خطوات تنموية متعلقة بأدوات انتاج وصناعة واستهلاك وغيرها، لتأتي مساعدة الصندوق كتكملة للجزء المفقود من حلقة التنمية.

وهذا ما يجعل تدخلات الصندوق مختلفة باختلاف البلدان. غياب التوازن بين دول ومناطق العالم يجعل تدخل الصندوق ايجابيًا في بلد وسلبيًا في بلد آخر، وعليه، فإن قبول تمويله وشروطه لا يمثل مشكلة في حد ذاته، كما أن محاربة الصندوق كصندوق مع مواقف مسبقة ليس الحل ايضًا، إنما المتغيرات الوسيطة هي التي تحدد نجاح بلد دون الآخر، وهذه المتغيرات هي ما يجب أن يكون موضع نقاش وحوار تبدأ في البلد نفسه وتنطلق كبرنامج للخارج وتتلاقى مع الصندوق في منتصف الطريق.

صندوق النقد الدولي

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات