معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

تركيا اللاعب الجديد في افغانستان: ما هو دور دبلوماسيتها الناعمة اثناء الاحتلال؟
25/09/2021

تركيا اللاعب الجديد في افغانستان: ما هو دور دبلوماسيتها الناعمة اثناء الاحتلال؟

د. علي دربج (باحث ومحاضر جامعي)

باتت افغانستان مهيأة للعبة جيوسياسية اخرى، وهي بذلك تستعد لظهور لاعب اقليمي جديد، هو تركيا، المنخرطة اساسا، وبعمق عسكريًا ودبلوماسيًا في العديد من المسارح في وقت واحد: ليبيا وسوريا والعراق مباشرة، وأوكرانيا والقوقاز لتعاون أمني أوسع، وأفريقيا كمشروع إنمائي ضخم، ولبنان وفي أماكن أخرى كساحات نفوذ. وها هي انقرة الان، اضافت افغانستان الى خارطة تمددها المتعدد الاتجاهات، لكن من غير الواضح، إذا ما كانت ستتمكن من تحقيق هدفها هذا في البلاد مستقبلا، وبأي ثمن.

مع بدء الانسحاب الاميركي وحلف "الناتو" من افغانستان، تم الكشف عن مقترح تضطلع به قوات تركية، بمهمة تأمين مطار كابول بعد رحيل القوات الاميركية والناتو. هنا، ان اول ما يتبادر الى ذهن المرء، السؤال التالي: ما الذي يدفع انقرة الى هذا الطرح، في وقت كانت فيه الولايات المتحدة، ومعها الناتو (وتركيا عضو فيه)، يلملمان اذيال فشلهم وينسحبون من افغانستان؟

العارفون بعقلية الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الحالم بإحياء الإمبراطورية العثمانية، يدركون سريعا ان ثمة أجندة وراء هذه الخطوة التركية، فتركيا تسعى إلى ايجاد دور لها في هذا البلد، تلبية لتطلعاتها وطموحاتها الاستراتيجية في غرب آسيا،  فأفغانستان ما بعد الولايات المتحدة توفر فرصة مغرية للمفكرين والممارسين الاستراتيجيين في أنقرة لتوسيع نفوذها وإبراز قوتها.

داخليا، سارع منتقدو أردوغان إلى نسبة عرض المطار إلى المغامرة أو اليأس، لكن فاتهم البحث عن الدوافع المنطقية للرئيس التركي، التي املت عليه عرض هذه الفكرة على اميركا والناتو، طمعا في البقاء هناك، وهي تتمثل بالاتي، أولاً: ان الاضطلاع بدور محوري في أمن العاصمة والمطار، من شأنه ان يجعل تركيا اكثر اهمية وقيمة، ويرفع من مكانتها داخل "الناتو".

ثانيًا، تمكين انقرة من توطيد علاقتها على المدى الطويل مع مجموعة متنوعة من الجماعات والمجتمعات الأفغانية وزيادة نفوذها بينها، وهي كانت قد فتحت خطوط اتصال مع معظم الاطياف الافغانية لا سيما البشتون، خلال الاحتلال الاميركي لأفغانستان.

ثالثًا، الحد من تدفق المهاجرين غير الشرعيين إلى تركيا عبر ايران، والتي اصبحت تحمل عددًا من المخاطر والتهديدات لتركيا، وقد تشكل ايضا، أزمة محتملة لأوروبا.

رابعا، استفادة الشركات التركية ـ لا سيما شركات البناء التي يفضلها أردوغان ـ من عقود إعادة الإعمار في حال استقرار أفغانستان أو تحقيق تسوية سياسية في الفترة المقبلة، وتعزيز وصول هذه الشركات الى موقع تنافسي مع نظيراتها الدولية الاخرى.

خامسا، ان التواجد في  المطار ليس بمهمة مستحدثة بالنسبة للأتراك. فهم عمليا، كانوا يقدمون المشورة لقوات الأمن الأفغانية في كابول منذ العام 2007، ويتولون حماية مطار كابول بدءا من العام 2015، وذلك كجزء من مهمة حلف شمال الأطلسي. اما الاهم فهو محافظة انقرة على الدور المستمر في كابول، وعلى جهودها الدبلوماسية الناعمة، وبالتالي تحقيق التوازن بين النفوذ الإيراني والباكستاني والسعودي، وتنمية دورها الجيوسياسي في "قلب آسيا.

حتى طالبان يبدو أنها اصبحت ترى تركيا كشريك ضروري لمستقبل أفغانستان (على أساس وطني وليس على أساس الناتو)، وخففت من حدة ردها في البداية على عرض أردوغان في استمرار الدور التركي، بالموافقة على المحادثات مع المسؤولين الأتراك.

وفي هذا الاطار، قال مصدر في طالبان لموقع الجزيرة القطرية ( الذي يتمتع بعلاقات ممتازة مع  طالبان) "ان الحركة بعد الأخبار التي تحدثت سابقا عن توافق أميركي ــ تركي لإدارة مطار كابل، طالبت تركيا بعدم الزج بنفسها في موضوع المطار، بل صرحت أنها ستعتبر تركيا "قوة غازية" إذا دخلت من هذا الباب". وتابع  المصدر "ولكن بعد سقوط كابل والفوضى التي رأيناها في المطار، فإن الحركة اضطرت لطلب مساعدة الأتراك والقطريين أيضا لتشغيل المطار"، مضيفا "أعتقد أننا تسرعنا في الحكم على تركيا".

وأوضحت الحركة "للجزيرة" أن "تركيا قدمت شروطا لإدارة المطار، ولم تعلق الحركة عليها حتى الآن". ومن أهم هذه الشروط: الاعتراف بطالبان حكومة شرعية مقابل إدارة تركيا وقطر للمطار بشكل مشترك، وقيام شركة حماية خاصة ـ تتكون من جنود ورجال شرطة أتراك سابقين ـ بتأمين المطار، إضافة إلى وجود عناصر من القوات الخاصة التركية بملابس مدنية لا يغادرون محيط المطار، لضمان سلامة الكوادر الفنية التركية.

تاريخيا، كان حجر الزاوية في استراتيجية تركيا في أفغانستان منذ عام 2001 هو نهج التحوط الثلاثي الذي يوازن بين كابول (ويقصد بذلك الحكومة الافغانية التي كانت تتركز سلطتها في المناطق الحضرية)، وحلف شمال الأطلسي، وطالبان. لقد قدمت لكابول دعمًا معنويًا وعمليًا أقل من المشاركة المباشرة في القتال.

وبناء على ذلك، عملت انقرة من خلال خطّين متوازيين، فهي من جهة ساهمت اثناء احتلال افغانستان في حلف الناتو بوحدات عسكرية للتدريب ودعم الموظفين الحكوميين، بالاضافة الى تقديمها مجموعة متنوعة من خدمات النقل واخرى لوجستية. ومن جهة اخرى، حاذرت إشهار العداوة الصريحة  لطالبان، وذلك باستخدامها الدبلوماسية المحسوبة التي تشارك فيها قطر، فضلاً عن محافظتها على اتصالات منفصلة مع الحركة، عبر قنوات الاستخبارات، وقيامها كذلك، بتوفير المساعدات والخدمات الطبية للفئات التي تهم طالبان.

تركيا اللاعب الجديد في افغانستان: ما هو دور دبلوماسيتها الناعمة اثناء الاحتلال؟

تم تجسيد هذا النهج من خلال إنشاء مستشفى عسكري تركي في كابول خدم الأفغان لأكثر من عقد في حي يكثر فيه البشتون قبل إغلاقه في عام 2015.  كان المستشفى في كامب دوغان على طريق جلال أباد على بعد ميل واحد من أكاديمية التدريب التي أسستها تركيا لضباط الصف في معسكر غازي.

علاوة على ذلك، قام الموظفون الأتراك بموازنة الاتصالات المجتمعية والمشاريع الصغيرة والتواصل السياسي بعناية مع مجموعة كاملة من الجماعات العرقية والسياسية، بما فيها تلك المجاورة لطالبان.

ضمت الكتيبة التركية في كابول سابقًا فرقًا ألبانية وأذربيجانية وجورجية وقوميات أخرى. حققت هذه الالتزامات المتشابكة الخدمة لمختلف المجتمعات الأفغانية، إضافة الى التدريب العسكري غير الحركي والدعم، والالتزام العام بالخط الاستراتيجي لحلف شمال الأطلسي في أفغانستان، غايتها، وحالت دون أن يصبح الأتراك أهدافًا عسكرية او للانتحاريين. وقد نجحوا بذلك على مدى العقد الماضي، باستثناء حالة واحدة (هجوم بسيارة مفخخة على دبلوماسي تركي في 2015) يبدو أنه وقع  خطأ ما في تحديد الهوية، اعتذرت عنه حركة طالبان لاحقًا وفقا لموقع الجزيرة القطرية في 26 شباط/ فبراير 2015.

بالمقابل، لم تتورط القوات التركية وابان حقبة الاحتلال الاميركي لأفغانستان، في أي عمليات هجومية ضد طالبان خلال عقودها في العمل، ولم يتم استهدافها عمداً من قبلهم أيضًا.

اكثر من ذلك، هناك بُعد آخر لاستراتيجية تركيا في افغانستان، وهو الإدارة الحذرة "للناخبين المتأرجحين" في أفغانستان: اي زعماء المجتمعات المحلية الأقوياء (او أمراء الحرب) والعمل على امتلاك القدرة للتأثير في الأصوات والميليشيات والائتلافات الحاكمة.

ومن بين هؤلاء عبد الرشيد دوستم، قائد "حركة جنبيش" وشبكته القوية في المجتمع الأوزبكي، والذي يدعم إلى حد كبير تركيا. كما تضم زعيم البشتون عبد الرسول سياف، وقائدًا من الهزارة، يدعى عبد الخاني عليبور، من وردك، والسياسي الطاجيكي محمد عطا نور في منطقة بلخ، وزعيم "الجماعة الإسلامية" محمد إسماعيل خان في هرات، وربما حتى قلب الدين حكمتيار.

لقد أقام المسؤولون الأتراك (العسكريون والدبلوماسيون والمخابرات) علاقات دقيقة مع هؤلاء الرجال، فلطالما كانت أنقرة أكثر استعدادًا لتجاوز السير الذاتية البغيضة وانتماءات سماسرة النفوذ الأفغان، وعليه فالاستراتيجية التركية، ستعمد بلا شك إلى إيجاد ترتيبات عملية معهم.

في الماضي، كانت استراتيجية تركية في أفغانستان بشكل عام، سياسية أكثر منها عسكرية. اما حاليا فلا شك ان انقرة ستتجنب استخدام النموذج الذي طبقته على النزاعات في سوريا وليبيا والقوقاز العام الماضي، والذي تضمن حربًا مفتوحة واستخدامًا عدوانيًا للقوة الصلبة.

وبدلاً من ذلك، سيسعى الأتراك إلى الحفاظ على موقع وسط حيث ستعمل تركيا بمساعدة قطر وباكستان على توسيع نفوذها على طالبان، ومع المانحين الغربيين والأجانب الآخرين لتضخيم تأثيرها في البلاد. اما العنصر الأخير في الاستراتيجية التركية فهو التعرف على المخاطر والتخفيف من حدتها.

من المحتمل أن يدق "مجال نفوذ" تركيا الموسع المحتمل أجراس الإنذار في جوار أفغانستان. سيغري هذا السيناريو دول مجلس التعاون الخليجي وباكستان، على وجه الخصوص، لمقاومة الاستراتيجية التركية.

إضافة الى ذلك، فإن التغلغل التركي في افغانستان ان تحقق، سيحتّم على دول المنطقة، مثل إيران والصين وروسيا، التي لديها مصالح أمنية مشروعة مباشرة في أفغانستان، مراقبة تحركات تركيا بريبة، قد تؤثر على أمنها القومي في وقت ما. ونظرًا لأن لديهم الرهانات الأكبر في السلام والاستقرار في أفغانستان، فإن المصالح الجيوسياسية المتنافسة وضرورات الحدود المشتركة لهذه البلدان تتعارض مع طموحات تركيا وممارساتها الوشيكة في غرب آسيا. هذا سيجعل الصراع في أفغانستان أمرًا لا مفر منه.

من هنا، ستعمد هذا الدول قريبًا الى التدخل لمنع الغزو الاستراتيجي المحتمل لتركيا في أفغانستان. وإذا أوجدت تركيا بيئة تؤدي إلى التقسيم النظري أو الافتراضي للبلاد على طول خط "تركستان الجنوبية" وجنوب أفغانستان مثلا، فسيكون ذلك بالتأكيد عرضًا هائلاً لضعف المكانة الجيوسياسية للدول المجاورة بما في ذلك باكستان.

ومع توجه تركيا للانتخابات الرئاسية والبرلمانية في عام 2023، فإن هامش المخاطرة السياسية والعمل الأحادي لتكريس دورها المستقبلي في افغانستان سيكون ضئيلا بالفعل. وإذا لم تتمتع تركيا بالدعم الغربي والباكستاني، والقبول الضمني من قبل طالبان اولا، والاطياف الافغانية الاخرى بشكل اقل، والاهم ضبط النفس النسبي من قبل المفسدين الخارجيين المحتملين، فإن مشروع الاستقرار الخاص بهم سيتجاوز الوسائل المتاحة لتنفيذه.

لكن على المقلب الاخر، يمكن لدور قيادي ناجح نسبيًا وبدون منازع في افغانستان بعد ان حسمت طالبان الامر لمصلحتها، معطوفا على التقارب الحاصل واشارت الغزل القائمة بين الطرفين، أن يصب في مصلحة حزب أردوغان في الانتخابات.

في المحصلة، يبقى الوجود التركي في افغانستان اقل خطورة بالنسبة للولايات المتحدة. آخر ما تريده واشنطن، هو أن تستضيف أفغانستان مشروعًا صينيًا لمبادرة الحزام والطريق / الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، وتتحول إلى مركز اتصال يستفيد منه في النهاية روسيا وإيران وباكستان وبكين، وهو ما قد يؤدي الى تعقيد اكبر في المشهد الافغاني.

وعليه، وفي حال ذهبت الامور باتجاه التقسيم الجيوسياسي المحتمل لأفغانستان مع تزايد آثار أقدام تركيا هناك، فإن ذلك سيشكل نهاية الاستراتيجية الكلاسيكية ـ الحرب بالوكالة من قبل جميع اللاعبين الرئيسيين. حينها  ستكون النتيجة النهائية بالتأكيد حربا أهلية سورية في أفغانستان. والأسوأ من ذلك، أن الجغرافيا السياسية التي لطالما كانت باردة ومحسوبة وقاسية، ستسخن درجة مع تكنولوجيا الحرب مستقبلا.

طالبان

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات