آراء وتحليلات
تايوان وحيدة خائبة بمواجهة الصين.. وواشنطن: لا تعتمدوا علينا
د. علي دربج - باحث ومحاضر جامعي
في كل مرة تثبت الولايات المتحدة للعالم أن الذين أتت بهم يومًا، إلى كراسي الحكم في القارات الخمس، على ظهر أساطيلها الحربية أو بقوة آلتها العسكرية أو نتيجة ضغوطها السياسية أو الدبلوماسية، سيصحون يومًا ما، ويجدون أنفسهم وحيدين في مواجهة أخصامهم في الداخل والخارج -سواء كانوا دولًا أو أحزاب أو شعوبًا أو قبائل- مكشوفي الظهر، دون غطاء أميركي، خُيّل اليهم أنه سيكون لهم خير سند، يمكن الاختباء خلفه أو اللجوء إليه والضرب بعصاه وقت الحاجة، خصوصًا أنهم قد أفرطوا في الرهان على واشنطن لحماية مواقعهم ومناصبهم وسلطانهم.
لكن كالعادة، وعندما تدق ساعة الحقيقة، لا تقدم لهم أميركا سوى الخيبات وعبارات الدعم، التي لا تسمن ولا تغني، كما هو حال واشنطن مع تايوان، التي تعيش هذه الأيام أوقاتًا عصيبة، بسبب التوترات العسكرية مع الصين، والتي تعد الأسوأ، منذ أكثر من 40 عامًا، حيث يتوقع الخبراء أن تكون الصين قادرة على شن غزو "واسع النطاق" عليها، بحلول عام 2025.
فلنعد بالزمن إلى الوراء قليلًا، لتكوين فكرة عن العلاقة بين تايوان وواشنطن، وكيفية تعاطي الأخيرة مع الصراع القائم بين الصين وتايبيه (اي تايون).
منذ أن وافق الرئيس الأميركي، جيمي كارتر، على الاعتراف بالنظام الشيوعي في بكين عام 1978، وليس التايواني، كحكومة شرعية للصين، سعت الإدارات الأمريكية المتعاقبة، ومن كل نوع (جمهورية كانت ام ديموقراطية) إلى تجنب الظهور بمظهر الانخراط في علاقة رسمية رفيعة المستوى مع قيادة الجزيرة في تايبيه، بالرغم من استمرار واشنطن في بيع الأسلحة لتايوان، وإجراء أشكال أخرى من العلاقات الحكومية على المستوى الدولي مع هذا البلد.
ونظرًا لتحسّس الصين من العلاقة المريبة بين واشنطن وتايوان، أمضى الرؤساء الأميركيون عقودًا في محاولة لتجنب الإجابة عن مسألة مدى القوة التي قد تقدمها الولايات المتحدة لمساعدة تايوان إذا غزتها الصين، أو بادرت الى خنق الجزيرة ببطء في محاولة لإجبارها على العودة إلى حضن بكين.
وللحصول على الجواب الشافي فلنتابع معًا.
في هذه النطقة بالذات، أول ما يجب معرفته، هو أن الإستراتيجية التي اتبعتها أميركا وما زالت، مع هذا البلد -ويطلق عليها "الغموض الاستراتيجي" لأنها تدرك كيف ستكون ردة فعل الولايات المتحدة مبهمة بالضبط - لا تصلح لرد فعّال وقوي يوازي التهديد الصيني القائم وفقًا لمسؤولين أميركيين.
ولمعرفة المزيد عن هذه الاستراتيجية، فلندقق بما قالته الادارة الاميركية.
مساء الخميس الماضي 21 الجاري، وبعد أن سُئل الرئيس جو بايدن خلال لقائه مع ناخبين في بالتيمور نظّمته شبكة "سي إن إن" الاخبارية، عما إذا كانت الولايات المتحدة ستحمي تايوان وأجاب بـ"نعم، لدينا التزام للقيام بذلك"، سارع البيت الأبيض إلى الاعلان أن "السياسة الأمريكية لم تتغير"، وأكد في بيان أن "الرئيس الأميركي جو بادين لم يكن يعلن عن أي تغيير في سياستنا، وليس هناك تغيير في سياستنا".
كانت عبارات البيان، تذكيرًا بما تبقى من حقل ألغام لتايوان بالنسبة للولايات المتحدة، بعد 42 عامًا من إقرار قانون العلاقات مع تايوان ووسط حشد كبير للقوات العسكرية الصينية في المنطقة. زد على ذلك، أنه بمجرد وصف استراتيجية الغموض بعبارات أقل غموضًا، كما بدا أن بايدن يفعل الخميس، فهذا يعني حتمًا أنه يصعب التراجع عن هذه السياسة.
في اليوم التالي، أي الجمعة 22 الجاري، كرر كل من وزير الحرب الاميركي لويد ج. أوستن، والمتحدث باسم وزارة الخارجية نيد برايس، بالتفصيل لغة قديمة تهدف إلى الإشارة إلى بكين "بأنه لا ينبغي لها أن تفعل شيئًا لتغيير الوضع الراهن، والى تايبيه ايضا -أو تايوان الجزيرة نفسها، وهنا الأهم- لا ينبغي لها أن تفكر في الاعتماد على الولايات المتحدة إذا فكرت في إعلان الاستقلال"، ودائمًا على ذمة "نيويورك تايمز".
ثم جاء بيان مكتوب عن مسؤول بوزارة الخارجية، ومفاده أن "ما يجب أن يكون واضحًا بشأن تايوان هو أن دعمنا لها صلب للغاية ونحن ملتزمون بالسلام والاستقرار في مضيق تايوان". البيان وإن زاد المشهد ضبابية فيما يتعلق بالموقف الأميركي من الأزمة المتصاعدة بين الصين وتايوان، لكنه لم يخرج عن سياق العناوين الأميركية الثابتة ويتقاطع مع كلام أوستن وبرايس.
لكن مهلًا، ولمن لا يعلم، بايدن ليس جديدًا على هذه القضية، فهو يعرف تعقيدات الملف التايواني جيدًا، وكيفية المواءمة بين مصالح واشنطن والعلاقة مع كل من الصين وتايوان. إضافة الى ذلك، يعد بايدن إحدى الشخصيات السياسية القليلة جدًا التي كانت متواجدة في واشنطن منذ فترة طويلة، لدرجة أنه صوت لصالح قانون العلاقات مع تايوان، في عام 1979، كسناتور شاب من ولاية ديلاوير.
لاحقًا، وبعد أن أصبح رئيسًا للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ (منذ 2001 وحتى 2009)، سافر خلال تلك الفترة إلى تايوان، وأدرك الفروق الدقيقة في التعابير التي يجب أن يتلفظ بها عند مقاربته هذا الملف.
في الواقع، لقد فهم بايدن الأمر جيدًا، لدرجة أنه وقبل 20 عامًا، كان قد حذر الرئيس جورج دبليو بوش الابن، من أن "الكلمات مهمة" وذلك بعد أن قال بوش إنه "سيفعل كل ما يتطلبه الأمر للدفاع عن تايوان".
عندما قال البيت الأبيض آنذاك، أي بعد ساعات قليلة "إن شيئًا لم يتغير"، كتب بايدن في تلك الفترة، مقالًا -عمود رأي- يصحح فيه ما صدر، مشيرًا إلى أن "الولايات المتحدة ليست ملزمة بالدفاع عن تايوان".
أوضح بايدن في مقالته في صحيفة واشنطن بوست حينها أن "هناك فرقًا كبيرًا بين الاحتفاظ بحق استخدام القوة وإلزام أنفسنا، مسبقًا، بالدفاع عن تايوان". واتهم بوش بـ "عدم الاهتمام بالتفاصيل".
ما يجدر التوقف عنده، أنه لم يكن تصريح بايدن الصريح يوم الخميس الفائت لأندرسون كوبر الصحافي في شبكة "سي ان ان"، المرة الأولى التي يقدم فيها مثل هذا الالتزام الملتبس وذي التفاسيرة المتعددة والمفتوحة والمطاطة.
في آب الماضي، وبعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، عندما تساءل بعض الحلفاء إلى أي مدى يمكنهم الاعتماد على الالتزامات الأمريكية، لجأ بايدن مجددًا الى المصطلحات المبهمة، فقال لشبكة ABC الأميركية، إننا "سنرد" إذا كان هناك عمل ضد أحد حلفاء "الناتو"، مضيفًا "نفس الشيء مع اليابان، وكذلك مع كوريا الجنوبية، وتايوان". غير أن بايدن لم يوضح طريقة هذا الرد ونوعيته وماهيته، والأكيد أنه لن يكون عسكريًا، وإلا لكان، اتبع كلمة رد بعبارة عسكري، وهذا ما لم يتفوه به مطلقًا. ولنفسّر الأمر أكثر.
عمليًا، تختلف الالتزامات التعاهدية مع "الناتو" واليابان وكوريا الجنوبية تمامًا، عما هي عليه مع تايوان، التي أعلنتها بكين جزءًا لا يتجزأ من أراضيها منذ إنشائها في عام 1949. لكن لغة بايدن ربما تعكس رغبته في تشديد لغة واشنطن لمواجهة القدرات الصينية الجديدة -وهو الارجح- والتي من شأنها أن تسمح بخطوات أكثر دقة لخنق تايوان -قطع الكابلات تحت البحر واتصالات الإنترنت وشحنات الغاز الطبيعي السائل- من الغزو المباشر.
إضافة الى ذلك إن بايدن الذي وازن واختار عباراته بعناية فائقة واستدرك خطأ الرئيس بوش سابقا -كما ذكرنا اعلاه- لن يورط نفسه وادارته بأي عمل ملزم -خصوصًا إن كان عسكريًا- تجاه تايوان وهو صاحب نظرية (لسنا ملزمين بالدفاع عن تايوان). وإن حصل وعزمت واشنطن على القيام بخطوة ما، فلن تتعدى فرض عقوبات على الصين في أحسن الأحوال، وهو ما يقوله مسؤولون أميركيون، كما سنرى في السطور التالية.
يعتقد بعض من هم في مراكز القرار في أميركا، أن عصر الغموض الاستراتيجي يجب أن ينتهي، فهو لم يعد يناسب اللحظة. وفي هذا السياق، قال ريتشارد هاس، المسؤول الكبير السابق في وزارة الخارجية والأمن القومي والذي يشغل الآن منصب رئيس مجلس العلاقات الخارجية: "لقد نمت لفترة طويلة في السن. لقد حان الوقت للتغيير من الغموض الاستراتيجي إلى الوضوح الاستراتيجي".
يرى هاس وعدد من الخبراء والمسؤولين الحكوميين السابقين أنه "سيكون من الحكمة أن نوضح لبكين بالضبط نوع العقوبات الاقتصادية التي ستتبع أي جهد لترهيب تايوان أو الاستيلاء عليها".
يتوقع هؤلاء ان يحدث ذلك، عندما يلقي بايدن خطابه حول استراتيجية الصين الذي طال انتظاره، ويوضح منهجه تجاه بلد يمثل تحديًا عسكريًا واقتصاديًا وتكنولوجيًا على نطاق لم تشهده الولايات المتحدة من قبل. ولكنهم متيقّنون، أن البيت الأبيض ليس مستعدًا لأي نوع من التغيير في سياساته.
بالنهاية، المعزوفة نفسها ترددها واشنطن في كل دولة تقع ضمن دائرة النفوذ الاميركية، ولبنان واحدة منها: "الالتزام بدعمه وحماية سيادته واستقراره"، لكن، إن قررت واشنطن التخلص من ألغامها في هذا البلد في لحظة ما، عندها لا الزيارات الاستعراضية للبعض الى الكونغرس، ولا البطولات الدونكيشوتية الوهمية ستنفعهم، ولكم في الموقف الاميركي من تايوان عبرة، فاعتبروا يا أصحاب أميركا.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024