آراء وتحليلات
حروب الدرونز الأمريكية الأبدية (1): قتل أكثر من 17000 انسان منذ 2004
د. علي دربج - باحث ومحاضر جامعي
مخطئ من يظن أن أميركا تتجه الى إنهاء حروبها سواء في الشرق الأوسط، أو أي منطقة أخرى في العالم. صحيح أنها توقفت عن شن غزوات أو خوض معارك مباشرة، أو إرسال عناصر بشرية الى بلد ما لاحتلاله كما فعلت مع أفغانستان في 2001 والعراق 2003، لكن في كل يوم نسمع عن ضربة لطائرة من دون طيار في منطقة محددة من الكرة الارضية، تثبت معها أميركا أنها ماضية في حروبها الأبدية، ولم تتخلّ عن نزعتها العدوانية وجنوحها نحو قتل كل ما تراه وفق تفسيرها أو تصنيفها الخاص عدوًا أو ارهابيًا، وحتى مشتبهًا به، وهو ما رأيناه بكثرة في العقود الأخيرة. أما سلاحها المفضل، فكان وما زال وسيبقى "الدرونز المسلحة" التي طبعت استراتيجيتها العسكرية في هذه المرحلة الآنية والسابقة نوعًا ما.
في خطاب ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في ايلول الماضي، أعلن الرئيس جو بايدن لأول مرة منذ عشرين عامًا أن الولايات المتحدة "ليست في حالة حرب". ومع ذلك، في الشهر الذي أعقب تصريحات بايدن، شنت الولايات المتحدة هجومًا بطائرة من دون طيار ضد تنظيم "القاعدة" في "منطقة سلوك" شمالي سوريا الخاضعة للسيطرة التركية، وتعرضت قاعدتها في "التنف" لهجمات من طائرات مماثلة مجهولة الهوية، ونفذت عمليات خاصة ضد تنظيم "داعش" قتلت خلالها ثلاثة إرهابيين، واعتقلت اثنين من عناصره في سوريا ايضًا، بحسب بيان للقوات الأمريكية. إذا كان هذا هو ما يبدو عليه عدم وجود الحرب، فمن الصعب تصور عالم تعيش فيه الولايات المتحدة حقًا دون قتل.
هنا يُطرَح السؤال: هل انتهت حروب أمريكا حقًا؟
على أرض الواقع، لا تظهر إدارة بايدن أي علامة على إنهاء أطول حرب في أمريكا، ما تسمى بـ "الحرب العالمية على الإرهاب". إذا كان هناك أي شيء، فقد دفع انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان الإدارة إلى الاعتماد بشكل أكبر على عمليات مكافحة الإرهاب "عبر الأفق" - وهي إعادة تسمية مُلطفة لضربات الطائرات من دون طيار والعمليات الخاصة في أفغانستان والصومال وسوريا واليمن وأماكن أخرى.
إنهاء الحروب ليس بالأمر السهل على الإطلاق، خصوصًا عندما يتم خوضها في الظل بعيدًا عن الرأي العام. رغم التعهد بالتوقف عن "الحروب الأبدية"، تواصل إدارة بايدن شن ضربات الطائرات دون طيار والعمليات الخاصة ومهام "التدريب والمشورة والمساعدة" في جميع أنحاء العالم.
هل تعلمون أن العديد من الأمريكيين تفاجأوا، بمن فيهم بعض أعضاء الكونجرس، عندما اكتشفوا أن الولايات المتحدة شاركت العام الماضي، في عمليات تحت ستار مكافحة الإرهاب في 85 دولة على الأقل، بقوات قتالية أو دور قتالي في 12 دولة بحسب "معهد واتسون للشؤون الدولية والعامة " في جامعة براون الامريكية؟
حتى في أفغانستان، حيث قيل إن الحرب الأبدية قد انتهت، لا تزال الولايات المتحدة على أهبة الاستعداد للحرب. في 6 تشرين الأول الفائت، قال النائب العام بالإنابة للمحكمة العليا الأمريكية إنه على "الرغم من انسحاب القوات من أفغانستان، لا تزال الحكومة الأمريكية منخرطة في الأعمال العدائية" مع القاعدة والقوات المرتبطة بها" بموجب تفسيرها لـ "تفويض استخدام القوة العسكرية" (2001 AUMF).
إذًا كيف تشرّع أمريكا هذا النوع من الحروب؟ الجواب في السطور التالية.
الطائرات دون طيار هي أداة، وليست سياسة. السياسة هي الاغتيال. وفي حين أيّد كل الرؤساء الامريكيين، منذ جيرالد فورد أمرًا تنفيذيا يحظر الاغتيالات التي يقوم بها الموظفون الأمريكيون، تجنب الكونغرس تشريع هذه المسألة أو حتى تعريف كلمة "اغتيال". وقد سمح ذلك لمؤيدي حروب الطائرات دون طيار بتغيير تسمية الاغتيالات بأوصاف أكثر استساغة، مثل مصطلح "القتل المستهدف".
لكن التحفظات الأخلاقية على الاغتيالات بدت وكأنها تتراجع مع تحول معجم التوصيف الأمريكي لعمليات القتل المستمرة هذه، إلى المسميات التالية: "القتل المستهدف"، "العمل المميت"، وحاليًا عمليات "عبر الأفق"، وهو مصطلح يخلو من الدلالات السلبية للقتل والحرب. على الدوام، اعتمد صانعو السياسة غالبًا على القوة المحدودة كوسيلة لشن الحرب باسم آخر.
كالعادة، بررت حكومة الولايات المتحدة المسألة بأنها لا تزال في نزاع مسلح عالمي مع هذه الجماعات التي تصفها بالإرهابية، مما يعني أن قوانين الحرب بنظرها تنطبق على عمليات مكافحة الإرهاب. لنفسّر الأمر معًا.
إذا وضعنا جانبًا الحجج القانونية المثيرة للجدل بشأن وجود نزاع مسلح عالمي، فإن هذا الموقف يؤدي إلى انفصال بين السياسة والقانون. من منظور السياسة، صورت إدارة بايدن نهج "تجاوز الأفق" كشكل من أشكال القوة المحدودة، وكبديل استراتيجي وأخلاقي للحرب التي تنطوي على مخاطر وتكاليف أكثر.
ولكن من منظور قانوني، تؤكد الإدارة أن استخدام القوة المحدودة، بقدر ما يؤدي إلى تقدم النزاع المسلح العالمي ضد الجماعات الإرهابية، يشكل "حربًا" لأغراض تحديد القواعد التي تحكم سير الأعمال العدائية، ومن يمكن قتله. بعبارة أخرى، تُصوَّر "استراتيجية تجاوز الأفق" على أنها حرب وبديل للحرب، بغض النظر عن تطبق قوانين الحرب.
الآن لنطلع على الوثائق المسربة لعمليات الطائرات دون طيار، خارج ساحات الحروب الامريكية، والتسمية التي اطلقتها واشنطن على هكذا عمليات.
كشفت صحيفة "ذا انترسبت" الاميركية في العام 2015، عن مجموعة من الوثائق ــ مصدرها شرائح سرية ــ وهي توفر نافذة على "حملة الاستهداف ذات القيمة العالية" (وهي تسمية اطلقتها على هذه النوع من العمليات بواسطة طائرات دون طيار) التي نفذها الجيش في الصومال واليمن، وعلى وجه التحديد عمليات وحدة سرية، هي فرقة العمل 48- 4.
أشارت الوثائق الى أن "وكالة المخابرات المركزية وقيادة العمليات الخاصة المشتركة التابعة للجيش الأمريكي (JSOC)، كانت، وما زالت، تعمل على برامج اغتيال متوازية، تعتمد على طائرات دون طيار.
تدعم الوثائق الإضافية المتعلقة بعمليات القتل "ذات القيمة العالية" في عدد من المناطق في العالم، الروايات السابقة عن كيفية إخفاء إدارة أوباما العدد الحقيقي للمدنيين الذين قتلوا في ضربات الطائرات دون طيار من خلال تصنيف الأشخاص المجهولين الذين قتلوا في غارة على أنهم أعداء، حتى لو لم يكونوا الأهداف المقصودة.
يُظهر مستند واحد شديد السرية آلية "قائمة مراقبة" الإرهاب في محطات الأفراد الذين يقومون بعمليات الطائرات دون طيار، حيث يربطون الرموز الفريدة المرتبطة ببطاقات SIM في الهواتف المحمولة بأفراد محددين من أجل تحديد موقعهم الجغرافي.
تؤكد الوثائق أن أول ضربة بطائرة دون طيار خارج منطقة حرب معلنة، كانت في أوائل الألفية الثانية، ومع ذلك لم يصدر البيت الأبيض حتى ايار 2013 مجموعة من المعايير والإجراءات لتنفيذ مثل هذه الضربات. لم تقدم هذه الإرشادات سوى القليل من التحديد، والتأكيد أن الولايات المتحدة لن تقوم إلا بضربة قاتلة خارج "منطقة الأعمال العدائية النشطة" إذا كان الهدف يمثل "تهديدًا مستمرًا ووشيكًا للأشخاص الأمريكيين"، دون تقديم أي احاطة بالعملية الداخلية المستخدمة لتحديد ما إذا كان يجب أن يكون المشتبه به قُتل دون توجيه لائحة اتهام، أو محاكمة. كانت الرسالة الضمنية بشأن ضربات الطائرات دون طيار من إدارة أوباما رسالة ثقة، دون أن تتحقق إذا ما كان الشخص المستهدف ارهابيًا حقيقيًا أو مدنيا أو مجرد مشتبه به.
ولكن، لماذا ارتباط اسم أوباما بهكذا ضربات قاتلة؟
منذ أيامه الأولى كقائد أعلى للقوات المسلحة، كانت الطائرة دون طيار السلاح المفضل للرئيس باراك أوباما، الذي استخدمه الجيش ووكالة الاستخبارات المركزية لمطاردة وقتل الأشخاص الذين اعتبرتهم إدارته - من خلال عمليات سرية، دون توجيه اتهام أو محاكمة - جديرين بالإعدام. كان هناك تركيز مكثف على تكنولوجيا القتل عن بعد -خارج مسارح حروبها العلنية- خصوصًا في اليمن وبشكل أقل في الصومال، ولكن ذلك غالبًا ما يكون بديلًا لما ينبغي أن يكون دراسة أوسع لسلطة الدولة على الحياة والموت.
عندما ناقشت إدارة أوباما ضربات الطائرات دون طيار علنًا، كانت قدمت تأكيدات أن مثل هذه العمليات هي بديل أكثر دقة للعناصر البشرية على الأرض ولا يُسمح بها إلا في حالة وجود تهديد "وشيك" أو "شبه مؤكد" من أن الهدف المقصود سيتم القضاء عليه.
لكن الواقع يكذب هذه الادعاءات الواهية. ما ينبغي معرفته أن مبدأ "البحث والإصلاح والنهاية" الذي غذى حرب أميركا، وتعدّى حدودها بعد الحادي عشر من أيلول، جرى صقله وإضفاء الطابع المؤسسي عليه. وسواء من خلال استخدام الطائرات دون طيار أو الغارات الليلية أو المنصات الجديدة التي لم يتم إطلاقها بعد، تكشف هذه الوثائق عن أن الاغتيال أصبح عنصرًا مركزيًا في سياسة الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب. وإليكم الدليل.
في أيلول 2009، أصدر قائد القيادة المركزية الأمريكية آنذاك الجنرال ديفيد بترايوس أمر تأسيس فرقة عمل مشتركة للحرب غير التقليدية، حيث كان من شأن ذلك أن يضع الأساس للقوات العسكرية للقيام بأعمال سرية موسعة في اليمن ودول أخرى. لقد سمح لقوات العمليات الخاصة الأمريكية بدخول دول صديقة وغير صديقة "لبناء شبكات يمكنها" اختراق أو تعطيل أو هزيمة أو تدمير "القاعدة والجماعات المسلحة الأخرى، وكذلك "تهيئة البيئة لهجمات مستقبلية من قبل أمريكا أو القوات العسكرية المحلية".
عندما تولى أوباما منصبه، كانت هناك ضربة أمريكية واحدة بطائرة دون طيار في اليمن، في تشرين الثاني 2002. وبحلول عام 2012، تم الإبلاغ عن غارة بطائرة دون طيار في اليمن كل ستة أيام. اعتبارًا من اب 2015، قُتل أكثر من 490 شخصًا في غارات بطائرات دون طيار في اليمن وحده.
وفي هذا السياق قال اللفتنانت جنرال مايكل فلين، الرئيس السابق لوكالة استخبارات الدفاع لصحيفة The Intercept، يبدو أن سياستنا في الشرق الأوسط بأكملها تستند إلى إطلاق الطائرات دون طيار. هذا ما قررت هذه الإدارة فعله في حملتها لمكافحة الإرهاب". إنهم مفتونون بقدرة العمليات الخاصة ووكالة المخابرات المركزية على العثور على رجل في وسط الصحراء في قرية صغيرة قذرة وإلقاء قنبلة على رأسه وقتله "
عمليا، قتلت عمليات الطائرات دون طيار الأمريكية في الخارج، التي أجراها كل من الجيش ووكالة المخابرات المركزية ـــ استنادا للصحيفةــ ما بين 9000 و 17000 شخص منذ عام 2004، بما في ذلك ما يصل إلى 2200 طفل والعديد من المواطنين الأمريكيين -يقول مسؤولون امريكيون كبار ان العدد اكبر من ذلك بكثير. ومع ان هذه التقديرات تقلل من التكلفة الحقيقية للحرب الأمريكية البعيدة، فإن الجيش الأمريكي يمارس تصنيف جميع الأفراد الذين قتلوا في مثل هذه العمليات على أنهم "أعداء قتلوا في المعركة" ما لم يثبت خلاف ذلك.
تقودنا الوثائق السرية مجتمعة، إلى استنتاج مفاده، أن "حملة الاستهداف العالية القيمة" التي تقوم بها واشنطن منذ اكثر من 19 عاما، تعاني من الاعتماد المفرط على استخبارات الإشارات، وخسائر مدنية لا تحصى على ما يبدو، بسبب تفضيل الاغتيال، على القبض على الشخص المطلوب. أما الذريعة فهي عدم القدرة على استخراج معلومات استخباراتية قيمة محتملة من المشتبه في أنهم إرهابيون.
وعليه، لا غرابة أنهم في الجيش الأمريكي لا يحبون وقف أي شيء يشعرون بأنه يجعل حياتهم أسهل، أو أنه لمصلحتهم. وهذا بالتأكيد، في نظرهم، طريقة سريعة جدًا ونظيفة للقيام بالأشياء. انها طريقة بارعة وفعالة جدًا لشن الحرب دون الحاجة الى ارتكاب أخطاء الغزو البري الهائلة في العراق وافغانستان". لكن في هذه المرحلة، أصبحوا مدمنين على هذه الآلة، وبهذه الطريقة، في ممارسة الأعمال التجارية، لدرجة يبدو أنه سيصبح من الصعب والأصعب سحبهم منها كلما سمح لهم بمواصلة العمل بهذه الطريقة.
الحلقة الثانية: قواعد طائرات دون طيار الأمريكية في افريقيا.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024