آراء وتحليلات
رأسمالية الكوارث.. الحل الغربي ورؤية السيد
أحمد فؤاد
في عالم مثقل بأزمات وجودية وأسئلة كبرى، وعقب اختراق لبناني مذهل للحصار الأميركي، كان له أن يصنع خطوطًا جديدة على خريطة الشرق الأوسط كله، وفي خضم إرهاصات وتنبؤات بدخول البلد إلى حلبة الصراع/المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، بفعل أزمة مالية مستحكمة وشديدة، خرج سيد الوعد الصادق، سماحة السيد حسن نصر الله، بكلمات قليلة العدد عميقة التأثير، حملت رؤية تتعلق بعدم الانجرار إلى مواجهة الصندوق دون خارطة واضحة، ولا تجعل من اللجوء إليه تخليًا عن أي من الثوابت.
وقبل ذلك بكثير، خرج السيد بدعوة ملهمة لـ "الجهاد الزراعي"، واضعًا نقاط الفعل الإيماني الأرقى والأعظم على حروف الحياة اليومية لكل منتمٍ لحزب الله، وكل عاشق للحق في خندق المقاومة، وضع السيد ما يمكن أن يكون خطة علاجية لمتاعب الاقتصاد اللبناني، حمّل المواطن مسؤوليته ووضع الحكومة أمام نصيبها من الوصول للأزمة الحالية.
باختصار وبغير إسهاب فإن ما دعا إليه السيد يبقى أفضل السبل في مواجهة عالم يقتات على الضعفاء، إما أن تمتلك طعامك أو تصبح أنت الوليمة، وسواء كانت المائدة في أحضان دول كبرى تطمع بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، عبر سيطرتها على القرار السياسي، أو في أطباق شركات أميركية، يطلق عليها كذبًا "متعددة الجنسيات"، فهم يجتهدون في افتراس دول العالم، كلّ حسب دوره.
وفي هذه المنطقة، التي نعاين فيها، ومنذ وجود حزب الله على صفحة الفعل السياسي، الإيمان حين يتحول إلى دستور ومؤسسات ومرتكزات حركة، فإن رؤية السيد الصادقة تماشت مع عدد من الكتب الاقتصادية الأكثر انتشارًا ومبيعًا، ناقشت حال عالم اليوم، وأسباب الفقر وعدم المساواة التي تتسع في كل دولة عربية بشكل مروع خلال السنوات الأخيرة، ودور منظمات التمويل العالمية (صندوق النقد والبنك الدوليين) في خلق فجوات بكيان الدولة ذاته، عبر تمرير شروط تفقد البلاد استقلالها، ومن ثم تكون الفريسة جاهزة أمام الكبار.
وفي كتاب الصحفي الأسترالي أنتوني لوينشتاين، "رأسمالية الكوارث.. كيف تجني الحكومات والشركات العالمية أرباحاً طائلة من ويلات الحروب ومصائب البشرية" المنشور عام 2015، والصادر بنسخته العربية في سلسلة عالم المعرفة مؤخرًا، ما يفتح الباب أمام رؤية أوسع للعالم حولنا، ويكشف عبر طيران طويل في قارات العالم عن المستفيد من الأزمات وصناعها، وكيف يمكن أن تتدخل دول وشركات كبرى في نزح الثروات عبر إفساد النخب ونشر الخراب في المجتمعات، ومصير من قبل أن يرهن طعامه للأميركي، أو يبيع استقلاله مقابل قروض صندوق النقد الدولي.
هذه الأزمات التي تهبط على عالمنا، أمس واليوم وغدًا، لا تتنزل من السماء ولا تخرج فجأة من باطن الأرض، رغم تواليها من مختلف الجهات، وانعكاسها على كل مناحي الحياة، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، حتى باتت المنطقة العربية على موعد شبه يومي مع الأزمات، الكل يغرق تحت غطاء سميك من المشاكل، حتى حجبت رؤية المعضلة الحقيقية، وأصبح عبور الهم اليومي بأقل الخسائر هو الحلم الوحيد، وأحيانًا المستحيل.
عدد كبير من كتب الاقتصاد خرج خلال السنوات العشر الماضية، محاولة أن تفسر مشهد الأزمة العالمي، ولما كان العالم العربي جزءًا من الكوكب، بل ويسكن في قلبه القديم، فإن العديد من الكتب الغربية لمست جذر الأزمة العربي العاري، وبعضها وضع تفسيرات عديدة للمشهد الكئيب، مع توقف العرب عند نهاية منحدر خطر، لا النخب الحالية قادرة على عبوره، ولا المؤسسات المالية العالمية أو القوى الكبرى المسيطرة راغبة في مساعدة أي دولة عربية على الخروج فعلًا من ورطتها، رغم التحالف الوثيق بين أغلب نظم الحكم العربية ونظيرتها الأميركية والأوروبية.
"يجوب صندوق النقد الدولي ومسؤولوه دول العالم الثالث، بدعم من القوى الكبرى المسلحة، سعيًا وراء خصخصة الشركات والخدمات العامة، ويحرضها على فتح أسواقها من دون حسيب أمام الشركات متعددة الجنسيات، والخصخصة الجماعية التي تحدث في دول العالم هي حجر الزاوية الحقيقي في السياسة الخارجية الأميركية. إنها تضمن نهب موارد العالم، وإنشاء طبقة سياسية فاسدة". بأكثر العبارات قسوة ووضوحًا، اختار الصحفي الأسترالي المعادي للصهيونية، أنتوني لوينشتاين، افتتاح كتابه "رأسمالية الكوارث: كيف تجني الحكومات والشركات العالمية أرباحاً طائلة من ويلات الحروب ومصائب البشرية؟"، المنشور لفضح زيف الرغبة الغربية في فرض الإصلاحات الاقتصادية على دول العالم الثالث، ويشرح فيه بإسهاب وبالأمثلة كيف سقطت الدول التي خضعت للإرادة الغربية في براثن دائرة جهنمية من الاستغلال المميت، وكيف أعادت الدول الكبرى احتلال العالم عبر إنشاء أنظمة سياسية ونخب محلية ساقطة، دينها المقدس هو الفساد والاستغلال.
يشرح الكاتب عددًا من الظواهر التي تضرب دول العالم اليوم، ويكشف عبر سباحة في تاريخ التدخل الغربي في 5 دول، هي: أفغانستان، باكستان، اليونان، هايتي، وغينيا الجديدة، كيف تدخلت الولايات المتحدة وغيرها من الدول الكبرى، ثم الشركات الغربية، لصنع الأزمة واستغلالها بأحقر الأشكال الممكنة، لتجني فيما بعد أرباحًا طائلة عبر اعتصار الطبقات المتوسطة والفقيرة في كل هذه الدول، وتركت فرائسها في حال من الشلل الكامل بعد أن ضمنت ربط الاقتصاديات بإرادة الشركات القائمة في الغرب.
بداية السياحة مع أنتوني لوينشتاين جاءت في أفغانستان وباكستان، أول مراكز الحرب الأميركية على الإرهاب، وأوضح مثالين على جدوى التدخل الأميركي العسكري، وما يحمله الكاوبوي إلى العالم من شركاته الأمنية، التي ازدهرت في كل من البلدين، وحولت الحياة هناك إلى حمامات من الدم، لتضمن ضرورة استمرار حاجة الحكومات والشركات الكبرى على إبقائها وضمان توظيف عناصرها، الذين هم في أغلبهم جنود سابقون بجيوش دول التحالف التي قادت الحرب في أفغانستان.
يروي لوينشتاين تفاصيل لقاءاته العديدة مع مديري شركة أمنية خاصة، تعمل في مدينة كابول عاصمة أفغانستان، وتقدم خدماتها الخاصة لكل من يدفع، بقيادة ضباط سابقين في الجيش البريطاني، ويرسم الصحفي صورة بائسة للغاية لحال البلد (في العام 2015)، وكيف ينتشر الفقر الشديد في شوارع عاصمتها الرئيسية، مقابل أن موظفي الشركة من المرتزقة الجدد لا يكسبون أقل من 1000 دولار يوميًا، مقابل مهمات حماية هذا البلد الغارق حتى الثمالة في الفقر.
ويمسك لوينشتاين بتلابيب الدور الأميركي الحقيقي في أفغانستان، الدور الخفي بعيدًا عن وسائل الإعلام، في عالم مظلم تحكمه أجهزة الاستخبارات الغربية، ويبحث عن الربح بكل صورة ممكنة، لا وجود للحرية أو الديمقراطية، أو القيم التي تشدق بها كل رئيس أميركي منذ انطلاق الحرب على الإرهاب بإعلان جورج بوش الابن. الجميع هنا يبحث عن دور وسط مجتمع أمراء الحرب والمقاولين الغربيين، والنقود هي كل ما يشغل السلاح، بحيث صارت رزم النقود هي الحاكم الفعلي للعاصمة.
بالطبع كان انتشار الفقر والجريمة، وانعدام الخدمات تمامًا، وميلاد جيل جديد لا يعرف من الحياة سوى الموت، هو النتيجة المنطقية للتدخل الأميركي في أفغانستان وباكستان، الكل يبحث عن المال، الشركات الغربية الكبرى من أجل أرباحها الفلكية، والمواطن العادي من أجل ضمان ما يكفل له الحياة، لا أكثر ولا أقل.
في كابول ينقل لوينشتاين وصفه الأخير للمشهد المعقد: "على الأرض في أفغانستان شاهدت أمة دمرها احتلال وحشي، ومقاومة شرسة من حركة طالبان، وعدد وفير من الشركات الغربية التي تجمع الثروات وسط البؤس والمعاناة. في النهاية نحن أمام بلد عانى مجزرة بشعة بسبب تدخلات قوى خارجية عديدة، ووصفت أفغانستان بأنها مقبرة الإمبراطوريات بسبب عدم قابلية شعبها للسيطرة، وشاهدت مقابر لا تحصى للجنود البريطانيين الراقدين للأبد هناك، في قبر يضم جنودًا من ألمانيا وهولندا وإسبانيا، التابعين لقوة التدخل الدولي "إيساف"، ووسط كل هذه الكوارث فإن تجارة الأفيون هي الشيء الوحيد الذي ينمو في البلد، ولا تلقي قوات التحالف بالًا من الأصل لمواجهته".
يصل لوينشتاين إلى محطته التالية، في اليونان، حيث قررت الترويكا الأوروبية وصندوق النقد الدولي أن يجربا خلطة تحويل البشر إلى مجرد أرقام، لا تعني شيئًا لأي أحد، مجرد أرقام ينبغي وضعها في معادلات، كي لا تثير الكثير من التعاطف خلال تطبيق خطط الإصلاح الجهنمي المفروض من الجهات الدولية.
في اليونان، طبقًا للكتاب، تبقى أزمتها متشابكة، فأزمة اللاجئين (وبعضهم عرب) اشتعلت مع زيادة وحدة الأعمال الوحشية من قبل الشرطة اليونانية ضدهم، ويرصد الكتاب عبر شهادات اللاجئين ظروف اعتقال مروعة واعتداءات متكررة خصوصًا من النازيين الجدد (حزب الفجر الذهبي) ضدهم، والتعامل فائق القسوة من الحكومة اليونانية في مراكز الاحتجاز كافة.
بينما تأتي أزمة اليونان الأصلية من "الترويكا" وهو تجمع يضم البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي والمفوضية الأوروبية، وهي التي فرضت على البلاد إجراءات تقشفية لا مثيل لها لتساعدها على تجاوز أزمتها الاقتصادية، من خلال ضخ قروض جديدة ثم إجبار الحكومة اليونانية على انتهاج طريق خصخصة واسع وشامل، جعل من الاقتصاد اليوناني يتراجع إلى الربع فقط.
ويكشف الكتاب النتائج المروعة لتطبيق خطة الإصلاح المالي الأوروبي في اليونان، بطالة متفشية وانتشار تعاطي المخدرات، وازدياد الجرائم بكل أنواعها بشكل مرعب، والفقر والدعارة والفساد المستشري، وصولًا إلى حالة عامة من الإحباط، فجرت الاضطرابات الاجتماعية بين كل مكونات المجتمع، وإليها يعزو الكاتب بعضًا من المعاملة الخشنة للمهاجرين في اليونان.
في اليونان فقد المواطن العادي الإحساس بالاستقلال، عقب سنوات من هيمنة الترويكا على القرار الوطني، فمصير كل شخص مرتبط بشكل كامل بإرادة خارجية قابعة في برلين وبروكسل، وكل تصريح يصدر عن الاتحاد الأوروبي يزيد ويعمق الأزمة المعيشية التي يعانيها المواطن أصلا، والأهم غياب الأمل في ظل هذه الأوضاع لنيل أي حقوق إنسانية أساسية.
ومن اليونان إلى بابوا غينيا الجديدة، في حلقة جديدة من الاستغلال الغربي غير المحدود للموارد المحلية، شاهد لوينشتاين الشركات الأسترالية تجتاح هذا البلد في حمى التعدين، أرباح خيالية لهذه الشركات كانت النتيجة، وفي المقابل، فإن كل ما يجنيه المواطن هناك هو النزر اليسير الكافي للبقاء ضمن قوة العمل الأرخص على الكوكب.
يسرقك الغربي، ثم يمنحك فتاتًا من ثرواتك، وفي النهاية تقول أستراليا إنها أكبر مانحة للمساعدات إلى بابوا غينيا الجديدة!
وإلى الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، ثالوث الشر الغربي، يعود لوينشتاين إلى القواعد، حيث تصل ثروات الشعوب المنهوبة إلى مراكز المال العالمي، ومقرات الشركات الأكبر على الكوكب، هناك في العواصم الثلاث حيث توضع الخطط وترسم السياسات وتحرك الجيوش لضمان السيطرة العالمية، وكتابة الشروط القاسية على كل من يضعه حظه العاثر تحت رحمتهم، ثم يراقبون تنفيذ الشروط، حتى تحين اللحظة المناسبة للانقضاض على الضحية، فيفترسونها دون رحمة.
يكشف لوينشتاين بالأدلة والشواهد، عبر رحلاته ولقاءاته، وباستعراض كم هائل من أراء الاقتصاديين والكتاب الغربيين، الوجه القذر للنظام الرأسمالي الغربي، وينزع القناع عن كل ما يخفيه هذا النظام المصمم خصيصًا لقهر الشعوب وسرقة ثرواتها، فإذا كان الأوروبي مارس الاحتلال المباشر فيما مضى، فإن النظام الرأسمالي اليوم يكتفي بنهب الموارد عبر استغلال الشعوب المقهورة في العالم، وعبر استغلال الحروب واللاجئين والكوارث من أجل الأرباح.
خاتمة
أبحر الصحفي الأسترالي النشيط لوينشتاين عبر عدد من دول العالم، ليبحث عن حقيقة لم تعد الصحافة الغربية (والأميركية خصوصًا) تنقلها، مع سيطرة رأس المال عليها، وسقوط الكتاب والمؤلفين في براثن الحاجة إلى من ينشر ومن يدفع، وقدم رؤية جديدة للعالم كما هو، دول كبرى تسعى لفرض سيطرتها السياسية، وشركات ترغب في امتصاص ثروات الشعوب بأي طريقة كانت، وفساد يمنح الغربي الفرصة لشراء الذمم الخربة، والكل يعمل على تمييع الحقائق وتغييبها.
لم تدخل الولايات المتحدة الأميركية إلى أي بلد إلا والخراب معها، خراب يتمثل في قروض بشروط مجحفة، وشركات شيطانية تعمل في الظل، تدخل إلى الدول تحت لافتة الخصخصة، وتدمر بشكل ممنهج المجتمعات والأوطان، وتمزق كل من يقف أمامها.
بينما تكمن الحالة الوحيدة للنجاة باتباع رؤية السيد، بالاعتماد على قطاعات الاقتصاد الحقيقي (زراعة وصناعة) فهي وحدها القادرة على ضمان الحاجات اليومية لكل مواطن، وبالتالي على فرض الاستقلال فرضًا في وجه عالم يبحث عن المحتاجين، لا لمنحهم شيئًا ما، لكن لسلبهم كل حرية وكل مورد وكل حق.
بكل الجبروت الذي خرجت به الولايات المتحدة من الحرب الباردة في التسعينيات من القرن الماضي، استطاعت بالفعل قهر عدد من الدول، العراق وأفغانستان، لكنها سقطت أمام كل دولة امتلكت جرأة التحدي، لم تستطع التدخل في إيران، ولم تفكر حتى في الدخول بمواجهة أمام التنين الصيني الصاعد. كل من كان يمتلك قوته كان يملك قراره، وكل من يملك قراره ليس على قائمة الفرائس.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024