آراء وتحليلات
حروب الدرونز الاميركية الابدية (4): عندما شطرت الصواريخ مزارعًا افغانيًا الى قسمين
د. علي دربج - باحث ومحاضر جامعي
بالنسبة للكثير من الأمريكيين ـ وبحسب زعم إدارتهم ـ لا تخوض بلادهم، أبدًا، حربًا من دون سبب صالح. يكفي فقط أن يُلصق أي ساكن للبيت الأبيض، أو مساعدوه، بشخص ما تهمة تعريض "حياة الأمريكيين للخطر أو إلحاق الضرر بها" ــ وان كانت زورًا أو تلفيقًا أو ظلمًا ــ حتى تُرسل مباشرة طائرة من دون طيار لملاحقته، وقتله أينما وجد، ولو في أقاصي الأرض، ليضاف بذلك، الى قائمة ضحايا حروب أميركا الأبدية التي حصدتهم آلتها الحربية "بكبسة زر".
لا تكترث الولايات المتحدة الى أعداد الأبرياء الذين قضوا وزهقت أرواحهم نتيجة ضرباتها، فجيشها يصنف جميع الأفراد الذين قتلوا في مثل هذه العمليات على أنهم "أعداء قتلوا في المعركة" ما لم يثبت خلاف ذلك. أما السند الذي يعتمدون عليه في فتواهم تلك، فهو كتاب قواعد سري يشرح بالتفصيل النظام القضائي الموازي لقائمة مراقبة الأشخاص وتصنيفهم على أنهم إرهابيون معروفون، أو مشتبه بهم دون الحاجة إلى إثبات أنهم ارتكبوا أي خطأ.
وسواء خرج علينا أحد الجنود العاملين في سلاح الطائرات دون طيار (وقد صحا ضميره) يتلو فعل الندامة كما سنرى في السطور التالية، أو مضى الآخرون في مهمة القتل الموكلة اليهم، سنجد دائمًا من يبرر تلك الأفعال الوحشية، بذريعة المحافظة على الأمن القومي. لكن الحقيقة في مكان آخر، حيث سنكتشفها معًا بلسان عنصر من المخابرات الجوية الأميركية، كان ساهم في قتل العديد من المدنيين الأبرياء.
العنصر، إضافة الى اماطته اللثام عن خفايا برنامج الطائرات دون طيار، فضح أيضًا الادارات المتعاقبة التي ضللت العالم والشعب الأميركي طويلًا، بسردية استهدافها الارهابيين فقط، وبحرصها على حياة المدنيين، وقد دحض هذه الكذبة الكبيرة وأظهر للشعب والرأي العام الاميركي الوجه البشع لجيشهم.
وحفاظًا على مهنيتنا، وكي لا نغرق في مستنقع إعطاء الألقاب كوننا نضع الجيش الاميركي في خانة العداء، لن نكثر الكلام عنه أو ننعته بأية أوصاف حتى لا تكون شهادتنا مجروحة، بل سنترك هذه المهمة لهذا العنصر الذي يدعى "دانييل هيل"، وهو كان محلل المخابرات الجوية الأمريكية، وقد حكم بالسجن لمدة 45 شهرًا في تموز/ يوليو 2021، بعد إقراره بالذنب لتسريب مجموعة من الوثائق الحكومية التي تكشف الأعمال الداخلية والتكاليف المدنية الباهظة لبرنامج الطائرات من دون طيار للجيش الأمريكي، فضلًا عن كشفه كتاب قواعد سري، يوضح بالتفصيل كيف تضع حكومة الولايات المتحدة الأفراد في نظام قوائم المراقبة المترامي الأطراف.
يقول هيل، البالغ من العمر 33 عامًا، أمام محكمة بولاية فيرجينيا، لقاضي المقاطعة الأمريكية، وهو يدعى ليام أوغرادي، إنه يعتقد أنه "كان من الضروري تبديد الكذبة القائلة إن "حرب الطائرات من دون طيار تحافظ على سلامتنا، وإن حياتنا تستحق أكثر من حياتهم". وأضاف هيل "في حرب الطائرات من دون طيار، في بعض الأحيان يكون تسعة من بين كل عشرة قتلى أبرياء.. عليك أن تقتل جزءًا من ضميرك للقيام بعملك".
كضحايا دائمين لحروب أمريكا الأبدية، قد لا تعنينا صحوة الضمير المفاجئة لهيل، والتي بررها بشعوره بالذنب غير العادي لتواطئه فيما اعتبره "عمليات قتل غير مبررة من خلال مشاركته في برنامج الطائرات دون طيار"، مدعيًا أن "إفصاحه كان مدفوعًا بحس من الواجب الأخلاقي"، لكن ما يهمنا بالدرجة الاولى هو حجم المعلومات المهولة التي سرّبها لصحيفة "ذا انترسبت" الاميركية، وبيّنت فظاعة الجرائم التي ارتكبها الجيش الأميركي (ولا يتورع عن ارتكابها كل يوم) بدم بارد.
قبل صدور الحكم عليه قدّم هيل خطابًا مكتوبًا بخط اليد من 11 صفحة إلى المحكمة، يوضح بالتفاصيل الحيّة الدوافع وراء أفعاله. استحضر هيل تجربته الخاصة في تحديد أهداف ضربات الطائرات الأمريكية دون طيار، حيث روى قصصًا مثيرة تدمي القلوب عن أشخاص أنهى حياتهم بثوانٍ، ولا ذنب لهم سوى أنهم تواجدوا في نفس المكان مع الشخص المُستهدف.
توجه هيل الى القاضي مخاطبًا "أنا هنا لأنني سرقت شيئًا لم يكن لي لآخذه؛ حياة بشرية ثمينة"، وتابع "لم أستطع الاستمرار في العيش في عالم يتظاهر فيه الناس بأن الأمور لم تكن تحدث على هذا النحو".
يصف هيل بعبارات حيّة صراعاته مع الاكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة وكيف كان قراره بمشاركة معلومات سرية مع صحفي مدفوعًا بإحساس لا يمكن كبته بالالتزام. هنا فلندع هيل يخبرنا بعضًا من قصصه "مع قتل الابرياء" بكلماته التي لا تخلو من مشاهد مهولة. فلنقرأها سويا حيث يقول هيل في رسالته إلى القاضي أوغرادي O'Grady في 18 تموز / يوليو الفائت:
"أول غارة بطائرة دون طيار شهدتها، بعد أيام من خدمتي لأول مرة في أفغانستان. كانت عملية نفذت قبل شروق الشمس، واستهدفت مجموعة من المسلحين الذين يحضرون الشاي حول نار المخيم في جبال ولاية بكتيكا. لم يكن من الممكن اعتبار حملهم أسلحة أمرًا عاديًا، تجاهلنا ان المناطق القبلية الخارجة عن سيطرة السلطات الأفغانية والتي ينعدم فيها القانون تقريبًا، يعدّ وجود السلاح فيها جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية للسكان هناك، أو ربما إرثًا محليًا. كان من بين المسلحين عضو مشتبه به في حركة "طالبان"، تم التعرّف عليه من خلال جهاز الهاتف المحمول الخاص به، والذي كان قد دسّه في جيبه. أما الأفراد الاخرون المسلحون الباقون (وهم في سن التجنيد)، فضلًا عن خطيئة الجلوس في حضور مقاتل معاد مزعوم، فإن اجتماعهم كان دليلًا كافيًا لوضعهم جميعهم موضع الاشتباه أيضًا. وعلى الرغم من "التجمع السلمي" وعدم وجود أي تهديد، فإن مصير الرجال الذين يشربون الشاي الآن، قد تحقق".
يتابع: "كنت جالسًا وأراقب ونظري منصب على شاشة الكمبيوتر، عندما جاءت موجة مفاجئة ومخيفة من صواريخ من طراز "هيلفاير"، وهشمت المكان، وتناثرت جراءها أحشاء بلورية أرجوانية اللون، على جانب الجبل، في الصباح الباكر.
منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا، ما زلت أتذكر العديد من هذه المشاهد للعنف المصور الذي تم تنفيذه، من الراحة الباردة على كرسي الكمبيوتر.
لا يمر يوم لا أشكك فيه في تبرير أفعالي. وفقًا لقواعد الاشتباك، ربما كان من المسموح لي أن أكون قد ساعدت في قتل هؤلاء الرجال - الذين لم أتحدث لغتهم والعادات التي لم أفهمها والجرائم التي (قد يكونون ارتكبوها) لم أتمكن من تحديدها،بطريقة مروعة كما فعلت. شاهدتهم يموتون.
ولكن كيف يمكن اعتباره شرفًا لي أن أترقب الفرصة التالية لقتل الأشخاص المطمئنين، الذين، في أغلب الأحيان، لا يشكلون أي خطر عليّ، أو على أي شخص آخر؟
وبغض النظر عن الشرفاء، كيف يمكن لأي شخص عاقل، أن يستمر في الاعتقاد بأنه كان من الضروري أن تكون حماية الولايات المتحدة في أفغانستان عبر قتل الناس، ولم يكن أحد منهم مسؤولاً في ذلك الوقت، عن هجمات 11 سبتمبر على أمتن؟. كنت جزءا من قتل الشباب المضللين الذين كانوا مجرد أطفال في يوم 11 أيلول".
ومع ذلك، كتب هيل، "أبقيت رأسي منخفضًا وواصلت عملي في تحديد أهداف الطائرات الأمريكية دون طيار. وعلى طول الطريق، أصبحت دوافع الربح الكامنة في الحرب على الإرهاب واضحة بشكل متزايد.
الدليل على هذه الحقيقة كان مكشوفًا من حولي؛ ففي أطول حرب وأكثرها تقدمًا من الناحية التكنولوجية في التاريخ الأميركي، فاق عدد المرتزقة المتعاقدين أرقام الجنود الذين يرتدون الزي الرسمي، (بلغت النسبة 2 إلى 1 وحصلوا على ما يصل إلى 10 أضعاف رواتبهم.
في هذه الأثناء، لا يهم ما إذا كان، كما رأيت، مزارعًا أفغانيًا منقسمًا إلى نصفين، لكنه واع بأعجوبة، ويحاول بلا جدوى أن يجرف أحشاءه من الأرض، أو ما إذا كان تابوتًا ملفوفًا بالعلم الأمريكي تم إنزاله في مقبرة أرلينغتون ناشيونال الوطنية، على صوت 21 طلقة مدفع. كلاهما كان ضحية تبرير التدفق السهل لرأس المال على حساب دمه ودمائنا. عندما أفكر في هذا، أشعر بالحزن والخجل من نفسي بسبب الأشياء التي قمت بها".
لكن مهلا، لم يفرغ هيل كل ما بجعبته، فثمة مشاهد مروعة اخرى في روايته، فلنتابعها سويا.
وصف هيل للمحكمة "اليوم الأكثر ترويعًا" في خدمته ، "عندما تحولت مهمة المراقبة الروتينية إلى كارثة". على مدى أسابيع ، كان الأمريكيون يتتبعون مجموعة من مصنعي السيارات المفخخة في منطقة جلال آباد.
"كان عصر يوم عاصف وغائم، عندما تم اكتشاف أحد المشتبه بهم وهو يتجه شرقا في سيارته بسرعة عالية، يعتقد المشرفون علي، أن السائق ربما كان يركض إلى الحدود الباكستانية".
يقول هيل: "كانت ضربة بطائرة دون طيار فرصتنا الوحيدة. وقد بدأنا بالفعل في الاصطفاف لأخذ اللقطة. عطّلت السحب والرياح الضربة، وأخطأ الصاروخ هدفه على بعد أمتار قليلة.
استمرت السيارة في السير لبعض الوقت قبل أن تتوقف. بعدها خرج رجل واخذ بتفحّص نفسه كما لو أنه لا يصدق أنه لا يزال على قيد الحياة. ثم نزلت امرأة أيضًا من السيارة وسارت إلى صندوقها.
علمت في وقت لاحق أن هناك طفلين صغيرين يجلسان متلاصقين داخل السيارة. كانا في سن الثالثة والخامسة، وعثرت عليهما وحدة من الجنود الأفغان في مكب نفايات في اليوم التالي (طبعا وسائل الاعلام الاميركية والعالم لا تذكر هذه الواقعة، كيف لا، والقاتل الرجل الاميركي الاستثنائي ذاو الذنب المعفور دائما؟). أذكر أن الاصغر، كان على قيد الحياة ولكنه أصيب بجفاف شديد، فيما عثر على البكر وهي فتاة، مقتولة بسبب جروح غير محددة ناجمة عن شظايا اخترقت جسدها.
عندما ألتقي بفرد، يعتقد أن حرب الطائرات دون طيار لها ما يبررها وتحافظ على أمن أمريكا بشكل موثوق، أتذكر ذلك الوقت، وأسأل نفسي كيف يمكنني الاستمرار في الاعتقاد بأنني شخص جيد، وأستحق حياتي، والحق في السعي وراء السعادة.
أصبحت أعتقد أن سياسة اغتيال الطائرات دون طيار تُستخدم لتضليل الجمهور بأنها تحافظ على سلامتنا، وعندما تركت الجيش أخيرًا، وما زلت أعالج ما كنت جزءًا منه، بدأت في التحدث علانية عن ان مشاركتي في برنامج الطائرات دون طيار، كانت خطأً عميقا.
ولإيقاف دائرة العنف، ادركت انه يجب أن أضحي بحياتي وليس بحياة شخص آخر، لذلك اتصلت بمراسل استقصائي، كانت لي معه علاقة سابقة، وأخبرته أن لدي شيئًا يحتاج الشعب الأمريكي إلى معرفته".
الى هنا انتهت قصة هيل، وبالتالي نسأل: هل يجرؤ احد من امراء الحرب اللبنانية، على الخروج الى الملأ واخبارنا بما اقترفت يداه بحق اللبنانيين الابرياء الذي سفكت دماؤهم ظلما وجورا على قارعة الطريق؟ حتما، لا ولن يفعلوا، لانهم حينها سيكونون بالآلاف امثال هيل.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024