آراء وتحليلات
كأس العرب: حين تخون الصورة
أحمد فؤاد
اتحدت الموجة الأحدث من فيروس "كورونا" مع واقع تبعية كامل ومزرٍ ترزح تحته الشعوب العربية، ليظلل بطولة كرة قدم تجري في أراضي قطر، لتنتج مشهدًا عبثيًا بامتياز، زادته بؤسًا حملة إعلانية مثيرة برعاية القنوات الناقلة للبطولة، ضد ما يقال إنها قضية دعم الشذوذ الجنسي في أوروبا. فرغت كل المشاكل العربية فجأة في قطر، ولم نجد بدًا من استدعاء أزمة غربية بالكامل، وهي أزمة الشواذ.
كل العقل أو المنطق لا يقول إن هناك أزمة عربية حول الموقف أو التعامل مع الشذوذ الجنسي، فهو فعل مدان ومجرّم قانونيًا ودينيًا وإنسانيًا في كل بلد عربي، ولا يظهر بالأصل أن هناك مشكلة واسعة حوله، وفي الأغلب فإنه يرتبط -حين يحدث- بجرائم أخرى مثل تعاطي المخدرات وما شابه، وبالتالي فهو كحدث ليس على قائمة أولويات أي شعب عربي، ولم يكن كذلك في أي وقت.
المشهد العربي البائس يعيد إنتاج قصة ما جرى في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر 2011، لكن التاريخ أعاد نفسه كمهزلة أقرب منه للمأساة، فلا قضايا ولا أزمات وجودية تواجه كل دولة عربية على حدة، وتواجه كل الدول العربية مجتمعة، سوى في قضايا الألوان والشواذ، وتراجعت فجأة قضايا فلسطين والتطبيع والاتفاقات النظامية مع كيان العدو، والتي كانت في صدارة الاهتمامات خلال الشهور الماضية، وبفعل فاعل.
قررت قنوات "الجزيرة" فجأة إعادة المشهد عشرين عامًا للوراء، وبالتحديد منذ قرار الولايات المتحدة الذهاب إلى المدى الأقصى في ما أدعى جورج بوش الابن أنه الحرب على الإرهاب، حين صنعت من أسامة بن لادن أسطورة، وحوّلت الهجمة الأميركية الوحشية ضد الشعوب الإسلامية والعربية في أفغانستان والعراق وغيرهما إلى صراع بين صدام حسين وابن لادن من جهة وجورج بوش من جهة أخرى، واستدرت التعاطف مع أدوات أميركا في مراحل سابقة.
ولعل أخطر ما قامت به القنوات الناشئة في حضن ورعاية قاعدة العديد الأميركية الضخمة، كان منح جورج بوش الوقود اللازم لتمرير قرار التدخل العسكري البري في أفغانستان أولًا ثم العراق، وتبني خطته الماكرة بالهجوم المزعوم بالجمرة الخبيثة "الإنثراكس"، داخل الأراضي الأميركية، لدفع قاطرة القاتل بوش إلى نقطة الانطلاق لتدمير شعبين إسلاميين، لا يزالان يعانيان الأمرّين منذ عقدين كاملين، وحتى اليوم، وإلى أجل غير منظور.
كانت الإستراتيجية الأميركية ناجحة بشكل مبهر. بمشاركة أطراف عربية بوعي أو من بدونه، ذهبت الولايات المتحدة إلى العقاب الجماعي للشعوب عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر دون الإجابة عن سؤالين أساسيين: كيف ارتكبت الجريمة؟ ومن ارتكب الجريمة؟ ودون إجابات فإن المدافع والصواريخ حلت محل القانون الدولي، بل وأخرجته من كل حساب، ووضعت قانونًا جديدًا للعصر الذي أرادته هو قانون القوة، أو بتعبيرات جورج بوش الابن "من ليس معنا فهو ضدنا".
وفي القلب من الجنوح الأميركي نحو التدمير، حاولت الميديا العربية، ونجحت جزئيًا، في تحويل أعداء اللحظة لواشنطن إلى متصدري الشاشات أمام المشاهد العربي، وفي خضم التهديدات الأميركية وسُحُب الدمار التي خلفها التدخل العسكري في أفغانستان، فإن التعاطف مع الضحية سرعان ما تحول عند شريحة ما إلى تأييد لابن لادن وصدام.
وفوق كل ابتلاء عربي آخر، فإن البلاء العربي الأكبر كان يكمن في أن الشخصيات التي تصدرت المشهد الانتقامي الأميركي، والتي سقطت منذ زمن بعيد، لم يكن أي منها قادرا على دفع ثمن دور البطولة، مثل ابن لادن في كهوف تورا بورا، ولا هو صالح لصورة الشهادة وجلالها الفائق، كما حاولوا تصوير محاكمة وإعدام صدام حسين.
تناست القنوات الخليجية، في غمرة حماسها لتصدير صورة صدام حسين "البطل العربي" الذي يواجه البطش الأميركي في 2003، من صنعه ومن دعمه طوال سنوات طويلة مضت، ومن كان يتدخل حين تحاصره الأزمات. لم يعد مشهد "خيمة صفوان"، أو الاجتماع الشهير بين نورمان شوارتسكوف وسلطان هاشم، عقب حرب تحرير الكويت، مطلوبًا، حين سمحت الولايات المتحدة للجيش العراقي باستخدام الطائرات التي قمع بها الانتفاضة الشعبانية ضد حكم صدام في 1991، مخلفًا عشرات الألوف من الشهداء، ومدنًا كبرى تنزف الدم والموت على يد عصابات الحرس الجمهوري.
لم يعد مطلوبًا استعادة صورة العراق حين قرر الانخراط في حرب عدوانية ضد الجمهورية الإسلامية لثماني سنوات كاملة، استنزف فيها صدام حسين ثروات العراق الهائلة، وقدم الملايين من القتلى على مذبح الرضا الأميركي، وضد مصالح الشعوب العربية والإسلامية التواقة للخلاص من النفوذ الغربي، والذي كان يمثل شاه إيران إحدى أدواته الفاعلة لعقود طويلة.
أُغلقت أيضًا ملفات الفساد الأكبر في عهد صدام حسين، والتي تفجرت عشية لجوء حسين وصدام كامل ابني عمومته، وزوجي ابنتيه، إلى الأردن، فاتحين جروحًا لم تندمل في جسد العراق النازف، حين صفوا أبصار وآذان العالم بوقائع التربح المشينة خلال فترة الحصار الدولي على العراق، وبعد أن جر صدام بلاده إلى أتون عقوبات دولية منعت حتى الأدوية عن الأطفال، كانت الطبقة الحاكمة خلف قصور بغداد المنيعة تتمتع بملايين الدولارات الحرام من التجارة في هذا الحصار الذي جلبته هي على شعبها.
هكذا اختارت أميركا أن تحدد لنا مشاكلنا، وأن تلخص لنا أزماتنا، أن تخلق أبطالًا ملفوفين بالأكاذيب، والمطلوب أن نبتلع الطعم في كل مرة، وأن نسعى وراء ما تحبه أميركا لنا وترضاه، أو أن نقف ونقول لا للصورة التي تخون والصوت الناعق بالباطل في كل الأوقات، وأن نرى الأرض التي نقف عليها، ويكاد يسحبها الكيان الصهيوني باتفاقات مع حكام هم العدو الأول لنا، أمس واليوم وغدًا.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024