آراء وتحليلات
المستقبل الديمغرافي للصين: اتجاه نحو الشيخوخة؟
د. علي دربج - باحث ومحاضر جامعي
إنها الصين. هي شاغلة الدنيا والناس. كل شيء فيها يبهرك ويجعلك تتوقف عند اسمها أينما وجد. بلهفة، تقرأ أو تسمع أو تشاهد كل أخبارها، وباهتمام تتابع كل ما يوجد فيها، أو ما تنتجه وتفعله.
تفاجئك يوميًا بجديدها الاقتصادي، وتطورها التكنولوجي، وتقدمها العسكري، وبنفوذها المتنامي في مختلف القارات، حتى بسياساتها السكانية التي عادت الى الواجهة مؤخرًا وبقوة، وأثارت الكثير من الجدل حولها في الداخل الصيني خلال الأسابيع الماضية.
فما الذي استجد في القضية الديموغرافية الصينية؟
في واقعة صدمت الكثيرين في الصين والعالم، أشارت مقالة افتتاحية في موقع إخباري صيني تديره الدولة إلى أن "أعضاء الحزب الشيوعي ملزمون بإنجاب ثلاثة أطفال من أجل مصلحة البلاد، حيث تسعى بكين لمعالجة انخفاض معدلات المواليد".
وأضافت المقالة، التي نشرتها وسيلة إعلامية حكومية تسمى "شبكة التقارير الصينية" أن "كل عضو في الحزب الحاكم - يبلغ عددهم حوالي 95 مليونًا - يجب أن يتحمل مسؤولية والتزام النمو السكاني للبلاد وأن يتصرف وفقًا لسياسة الأطفال الثلاثة".
ولفت المقال الانتباه، الى انه "لا يجوز لأي عضو في "الحزب الشيوعي الصيني"، أن يستخدم أي عذر موضوعي أو شخصي لعدم الزواج أو الإنجاب، ولا يمكنه استخدام أي عذر لإنجاب طفل أو طفلين فقط".
وكيف تلقف الصينيون الخبر؟
المقالة سرت كالنار في الهشيم، الاسبوع الماضي، انتشرت -كانت نُشرت لأول مرة في تشرين الثاني الفائت -على نطاق واسع، وقوبلت بردود افعال حادة من قبل مستخدمي الإنترنت الصينيين، مع ملايين المشاركات والآراء والتعليقات. ونتيجة لتصاعد موجة رد الفعل، اختفى المقال الأصلي من الموقع. وبالرغم من حذفه، الا انه تم تداول لقطات للمقالة على شاشات الهواتف الذكية على نطاق واسع، كما أن علامات التصنيف المرتبطة بها، شوهدت ملايين المرات.
أما النقطة الأهم، والتي يجدر بنا التوقف عندها، فهي أن المقال لم يأت من فراغ، بل ثمة بوادر ومعطيات ووقائع، تؤكد ان الصين مقبلة على مشكلة شيخوخة، بعدما أدت عقود من التعقيم القسري، وبيع الأطفال الرضع والاطفال الذين تم التخلي عنهم إلى "تجار البشر"، إلى السيطرة على النمو السكاني في الصين.
بداية، من المفيد التذكير، انه تم تنفيذ سياسة الطفل الواحد الصارمة في عام 1979، ولم يتم إلغاؤها إلا في كانون الثاني 2016. وقد فرضت هذه السياسة، لإعطاء النمو السكاني دفعة قوية. ولكن الأرقام لم تتزحزح كثيرا. فبعد ما يقرب من خمس سنوات، أي في العام 2021، ألغت الحكومة الصينية سياسة الطفلين وسمحت للمتزوجين بأن ينجبوا ثلاثة أطفال.
وعندما جرى الترويج لسياسة الطفل الواحد بقوة سابقا، تم تعميمها على جميع وسائل الإعلام، بما في ذلك الجدران في الشوارع، وعلب الثقاب، والأغاني التي تدرس في المدارس، وصناديق المواد الغدائية، والبرامج التلفزيونية. ومع ذلك، فإن هذه السياسة، كانت لها اثار جانبية فائقة الخطورة، تتمثل بظاهرة التفضيل الثقافي للطفل الذكر، وهذا يعني الإجهاض المتفشي للأجنة الفتيات، أو قتل الإناث.
تواجه الصين أزمة ديموغرافية مضافًا اليها شيخوخة السكان وانخفاض معدلات المواليد. تشير الأرقام الحكومية الى أن أكثر من 18 بالمائة من السكان، تزيد أعمارهم عن 60 عامًا، وفقًا لتعداد 2020. كما أظهرت الأرقام الصادرة عن مكتب الإحصاء الوطني في البلاد في تشرين الثاني الماضي، أنه كان هناك 8.5 مولود، لكل 1000 شخص في عام 2020، وهي المرة الأولى التي انخفض فيها الرقم منذ عقود، إلى أقل من 10، بينما كان الرقم في العام 1978، أكثر من 18 لكل 1000.
أكثر من ذلك، كشفت أرقام من كتاب الإحصاء السنوي الصيني 2021 الذي صدر مؤخرًا، أن عدد تسجيلات الزواج في الصين انخفض لمدة سبع سنوات متتالية ووصل إلى أدنى مستوى له في 17 عامًا، في عام 2020. فوفقا للبيانات الصادرة عن وزارة الشؤون المدنية، تزوج حوالي 5.87 مليون شخص، في الصين في الأرباع الثلاثة الأولى من عام 2021، أي بانخفاض طفيف عن الفترة نفسها من العام الماضي.
وفي الاطار ذاته، أفادت صحيفة "تشاينا ديلي" الحكومية أنه من المتوقع أن يستمر عدد تسجيلات الزواج في الصين في الانخفاض في عام 2021. أصبح معدل الخصوبة المنخفض، وسن التقاعد المبكر نسبيًا، وسياسة الأطفال الثلاثة، مصدر قلق كبير للصين حيث إن البلاد تتقدم في السن، ( نحو الشيخوخة) بشكل أسرع من التوقعات السابقة، وهو ما بيّنته الاحصاءات، التي تتحدث عن ان عدد الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 60 عامًا أو أكثر، يبلغون حوالي 264 مليونًا، وهو ما يمثل 18.7 في المائة من إجمالي السكان، بينما قدّر متوسط النمو السكاني السنوي للمسنين، بحوالي 6.3 مليون لمدة 21 عامًا، وفقًا لآخر تعداد.
بالمقابل، كشفت أرقام كتاب الإحصاء السنوي الصيني لعام 2021، أن معدل المواليد في الصين العام الماضي، بلغ ما نسبته 0.852 في المائة، وهو أقل من واحد في المائة، وهو امر يسجل لأول مرة منذ عام 1978. وبناء على ذلك، جاء قرار السماح بالطفل الثالث، بعد أن أظهر أحدث تعداد يُجرى مرة كل عقد أن عدد سكان الصين زاد بأبطأ وتيرة إلى 1.412 مليار وسط توقعات رسمية بأن الانخفاض قد يبدأ في وقت مبكر من العام المقبل.
وماذا عن المشهد المستقبلي للواقع السكاني في الصين؟
ربما تكون الخطوة المتطرفة (اي سياسة الطفل الواحد) قد أدت إلى السيطرة على مشكلة السكان في الصين. لكن، سيتطلب الأمر أكثر من خطوة متطرفة لتصحيحها. يقول خبراء (الديمغرافية) كما هو واضح، سيؤثر الانخفاض السريع في عدد السكان في الصين، في العام 2050 وما بعده، على نموها الاقتصادي.
من المتوقع ان تشهد الصين نموًا أسرع في عدد سكانها الذين يتقدمون في السن، وتحولًا كبيرًا في الهيكل العمري للسكان اعتبارًا من عام 2023 ، حيث سينضم (بحسب الاحصاءات) حوالي 10 ملايين شخص إلى السكان المسنين كل عام. ومن المرجح أن يمثل كبار السن 29.1 في المائة، من إجمالي سكان الصين في عام 2036، وهو رقم صادم.
زد على ذلك، انه وعلى الرغم من ظهور سياسة الأطفال الثلاثة، إلا أن الكثير من الناس لا يملكون الشروط أو القدرة أو المال أو الوقت لرعاية الأطفال، خاصة بالنسبة للنساء، اللاتي يتعين عليهن العودة إلى المنزل مبكرًا، وهذا سيجعل المزيد من الشركات ترفض توظيف النساء.
ليس هذا فسحب، تقوم النساء ـ بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة والتعليم ـ بتعليق الولادة والتركيز على الوظائف، مما يعرض السكان الشباب للخطر. وفي هذا السياق قال أحد المعلقين على Weibo، المنصة الشبيهة بتويتر في الصين، "أنا مجرد شخص عادي. وقتي وطاقتي وأموالي تسمح لي فقط بتربية طفل في المستقبل. معظم أعضاء الحزب هم أيضًا أشخاص عاديون ".
وتبعا لذلك، ووفقًا لدراسة أجرتها جامعة بكين عام 2013، كان 3 في المائة، فقط من (الشباب) المستجيبين لديهم معاش تقاعدي تجاري، و 0.2 في المائة، يحصلون على معاش مهني خاص صادر عن صاحب عمل خاص، وهذا من شأنه أن يعرض مصير كبار السن في الصين للخطر.
فرعاية المسنين في الصين، تعتبر تقليدية إلى حد كبير، حيث تتم رعاية كبار السن في الغالب من قبل أبنائهم. ولكن مع انتقال المزيد من الشباب إلى مدن بعيدة للحصول على فرص أفضل، تُترك غالبية السكان المسنين بمفردهم. وعليه من الواضح أنه حتى سياسة الثلاثة اطفال تعد مشكلة معتددة الجوانب، ولن يكون حلها سهلا، وستشكل معضلة مستقبلية لبكين.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024