آراء وتحليلات
لماذا تعمّدت موسكو الغموض الاستراتيجي حيال كييف؟
د. علي دربج - باحث ومحاضر جامعي
لا تزال نتائج القمة التي جمعت بين الرئيسين الأميركي جو بايدن، ونظيره الروسي فلاديمير بوتين عبر تقنية الفيديو في السابع من الشهر الجاري، تستقطب اهتمام الدول والسياسيين والرأي العام، رغم شحّ المعلومات التي تسربت عنها.
فالبيانات الرسمية الصادرة عن الاجتماع، أكدت المواقف التي تم التعبير عنها سابقًا من قبل البلدين، ما دفع بالعديد من المراقبين والدبلوماسيين الى الاستنتاج أن المحادثات قد فتحت نافذة جديدة. فضلًا عن ذلك فإن التصريحات المنفصلة للمسؤولين الأمريكيين والروس، اضافة الى التغطية الإعلامية المكثفة، قدمت بعض الأفكار المفيدة حول محتوى المحادثات، وكذلك سهلت فهمًا أفضل للأسباب المنطقية وراء التعزيز العسكري الروسي الأخير بالقرب من الحدود الأوكرانية.
النقطة الاولى التي جرى استخلاصها من هذا اللقاء، هي أن موسكو أصبحت تعتقد أن بإمكانها استغلال التهديد العسكري بشكل فعال لجذب الانتباه المطلوب من الغرب وبالتالي الحصول على تنازلات دبلوماسية بشأن قضية أوكرانيا ـ مهما بدت صغيرة ـ من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. فبعد أن فشلت في الضغط بشكل مباشر على أوكرانيا، تتمثل إستراتيجية روسيا الآن في ممارسة هذا الضغط بشكل غير مباشر، واستغلال المخاوف في واشنطن والاتحاد الاوروبي، من حرب محتملة في أوروبا.
وانطلاقا من هذه النقطة، فإن السؤال الأهم، الذي يجب طرحه في ظل هذه الظروف، ليس إذا كانت روسيا ستهاجم أوكرانيا عسكريًا أم لا، بل ما هي الإجراءات التي من المرجح أن تقلل من احتمالية حدوث هجوم روسي دون التضحية بسيادة أوكرانيا، ولماذا استعانت موسكو بوسائل الاعلام؟ وما كان دورها؟
للإجابة عن هذه المسائل، من الضروري التعمق أكثر في استغلال الكرملين لمنطق التهديدات بهدف خلق غموض استراتيجي حول استعداد روسيا لمهاجمة أوكرانيا.
عند التدقيق في سلوك الاعلام الروسي، يمكن للمرء أن يلاحظ ديناميكية غريبة في الفضاء الإعلامي الروسي قبيل مؤتمر بايدن ــ بوتين. فمن ناحية كان الخبراء الروس ـــ الذين يستهدفون الجماهير الغربية ــــ يرددون أن التهديد بشن هجوم عسكري روسي ضد أوكرانيا لا يمكن استبعاده، وأن الغرب يجب أن يأخذ مخاوف روسيا على محمل الجد. وفي ذات الوقت، صوّر المحتوى الإعلامي الروسي الذي يستهدف الجمهور المحلي في الغالب فكرة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا على أنها "هستيريا غربية".
وبالمثل، رفض المسؤولون الروس أي مخاوف بشأن هجوم مسلح محتمل على أوكرانيا، مشيرين إلى أن لروسيا الحق في نشر قواتها العسكرية في أي مكان على أراضيها.
هذا التناقض اللافت هو أمر غير معتاد إلى حد ما في مجال المعلومات الخاضعة للسيطرة المشددة، وهو يشير بحسب تفسير (المراقبين الغربيين)، الى أن الكرملين كان يدير عملية التأثير هذه بهدف بيع الأمريكيين مخاوفهم، وممارسة نوع من الضغوط للتأثير على تصورات الحكومات الغربية ومواقفها الخطرة، لجعلها أكثر استيعابًا.
اما الدليل على ذلك، فهو السلوك الروسي المتكرر والملحوظ، والذي يقوم على ارسال موسكو لقواتها العسكرية إلى الحدود الأوكرانية، مما يؤدي بعد ذلك إلى اندفاع الغرب عمومًا والولايات المتحدة بشكل خاص إلى روسيا لإجراء محادثات.
حدث ذلك في وقت سابق من هذا العام، مما أدى إلى قمة جنيف بين بايدن وبوتين، ثم جرى تكراره مرة أخرى بعد الحشد العسكري الروسي حول أوكرانيا في تشرين الثاني الفائت.
أكثر من ذلك، لعبت وسائل الاعلام الروسية والمتخصصة، دورًا مؤثرًا وكبيرًا في ترويج فكرة أن أوكرانيا تمثل مخاطر كبيرة لروسيا ولكنها ذات أهمية أقل بالنسبة للولايات المتحدة، على عكس الصين، على سبيل المثال.
أما الهدف فهو اضفاء المزيد من المصداقية ليس فقط، على استعداد روسيا لاستخدام القوة العسكرية، ولكن أيضًا لإظهار أن روسيا لا تعتقد أن الغرب مستعد لتحمل تكاليف باهظة بما يكفي لوقف روسيا.
بالنتيجة، أدت الإشارات المتضاربة التي أرسلتها روسيا بشأن هجوم عسكري محتمل لأوكرانيا، إلى جانب الرسائل التي تشير إلى الاستعداد لقبول التكاليف الباهظة، إلى خلق غموض استراتيجي حول نوايا روسيا. ونظرًا إلى اعتقاد الكرملين بأن الغرب يتجنب المخاطرة، فإن خلق هذا الغموض الاستراتيجي كان عملاً متعمدًا.
وما الذي حققته قمة بوتين ــ بايدن؟
تكشف المقارنة بين القراءة العامة الأمريكية للمحادثات بين الطرفين الأمريكي والروسي، عن بعض الأدلة المفيدة. يدعي الكرملين أن الرئيسين اتفقا على إنشاء صيغة مناقشة، لمعالجة مخاوف روسيا بشأن توسيع منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) شرقاً و"استكشافها" للأراضي الأوكرانية، وفرض قيود على القوات والأسلحة في أوروبا.
تتحدث نسخة البيت الأبيض عن الحاجة إلى وقف التصعيد والعودة إلى الدبلوماسية بالإضافة إلى اتفاق رئيسي بين الدولتين على تكليف فرقهما بمتابعة هذا الأمر. علاوة على ذلك، وفي تغيير غير متوقع في الموقف، يبدو أن الجانب الروسي مستعد للسماح للولايات المتحدة بالانضمام إلى محادثات صيغة نورماندي (تضم روسيا وأوكرانيا وألمانيا وفرنسا، وتسعى لتسوية النزاع في أوكرانيا بالطرق الدبلوماسية).
وعلى الرغم من أن المتحدث باسم الرئيس الروسي دميتري بيسكوف، أصر قبل اللقاء مباشرة، على أن صيغة نورماندي مكتفية ذاتيًا وأنه لا توجد خطة لدعوة الولايات المتحدة للانضمام اليها، لكن وفقا لصحيفة Kommersant الروسية، فإن وزارة الخارجية الروسية لم تستبعد انضمام الولايات المتحدة إلى صيغة نورماندي. زد على ذلك أن الكرملين قال إنه يمكن الحديث عن توسيع "الرباعية" من خلال مقارنة مواقف المشاركين، والكلام للصحيفة ذاتها.
يتوافق هذا التغيير الجذري في الموقف بشكل جيد مع القناعة الروسية بأن الولايات المتحدة يمكنها ببساطة أن تأمر أوكرانيا بتغيير سياستها. كانت مقاومة موسكو تجاه انضمام الولايات المتحدة إلى صيغة نورماندي، ناجمة عن الاعتقاد بأن نفوذ روسيا على ألمانيا وفرنسا أكبر من تأثيره على الولايات المتحدة. المفارقة، أن هذا المنعطف الـ 180 درجة، يشير إلى أن الكرملين يعتقد أن الولايات المتحدة منفتحة الآن للنظر في بعض مطالب روسيا، ومستعدة لدفع أوكرانيا نحو تنفيذها.
لكن الى ماذا تسعى روسيا من وراء كل ذلك؟
تسعى روسيا إلى تحقيق هدفين رئيسيين؛ الأول هو ممارسة ضغوط غير مباشرة على أوكرانيا لتقييد استخدامها للطائرات من دون طيار الهجومية Bayraktar TB2 التي تم شراؤها من تركيا. فاستخدام هذه الطائرات من شأنه أن يمنح أوكرانيا ميزة عسكرية عالية، مما يثير مخاوف روسيا من أن كييف قد تميل إلى محاولة حل عسكري في دونباس (في أوكرانيا حرب مشتعلة أصلا منذ سنة 2014 في إقليم "دونباس" شرقا، بين قواتها والانفصاليين الموالين لروسيا). في الواقع، تريد روسيا تجنب فقدان السيطرة على دونباس أو إجبارها على محاربة أوكرانيا علنًا.
تم توضيح الهدف الثاني من خلال البيانات العامة: قبول أوكرانيا بالعودة إلى النسخة الروسية من اتفاقيات مينسك (تقضي بوقف اطلاق النار شرقي أوكرانيا وإقامة منطقة عازلة، وسحب الأسلحة الثقيلة. وقد وقع هذه الاتفاقيات قادة اوكرانيا وفرنسا والمانيا وروسيا). وعليه، إن التهديد بغزو روسيا العسكري لأوكرانيا ليس سوى الأداة، في حين أن الهدف يظل هو نفسه الذي أشعل فتيل حرب الكرملين بالوكالة في دونباس. لا تهدف روسيا إلى السيطرة على أوكرانيا عسكريًا، ولكن سياسيًا. لذلك، فإن الفخ الرئيسي للغرب الجماعي هو الاستسلام وقبول النموذج الروسي لحل النزاع في دونباس مقابل تجنب الحرب ضد أوكرانيا.
من هنا، يمكن القول إن هذا هو الهدف المركزي الروسي وراء حشدها الأخير للقوات العسكرية حول أوكرانيا، وتهديداتها العسكرية، وخلق غموض استراتيجي فيما يتعلق باستعدادها للهجوم على كييف.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024