آراء وتحليلات
العلاقات التركية ـ الإسرائيلية: نحو اكتمال المسار
بتول قصير
تتصدر تركيا رسميًا رأس القائمة كإحدى الدول المعترفة بكيان العدو منذ العام 1949. إلا أنه وبعد ستين عامًا على العلاقات التركية - الإسرائيلية، ما زالت رغبة تركيا بلعب دور الوسيط النزيه في الصراع الشرق أوسطي على سلم أولويات سياستها الخارجية.
يخفي هذا الدور وراءه سعي أنقرة الحثيث لإقامة علاقات متينة وشراكات استراتيجية مع العالم الغربي. وقد توثقت عُرى التعاون السياسي والدبلوماسي بين تركيا والكيان على أساس وجود هواجس مشتركة لديهما من جراء الأوضاع غير المستقرة في دول الشرق الأوسط، إلا أنه وبعد وصول حزب "العدالة والتنمية" الى الحكم عام 2002 واجهت هذه العلاقات أزمة ثقة، وتطورت حدود المواجهة بين الطرفين بعد الهجوم الإسرائيلي على أسطول الحرية الذي كان متوجهًا لكسر الحصار عن قطاع غزة عام 2010، إلا أنه لم يرق لمستوى قطع العلاقات الدبلوماسية بينهما.
كانت تركيا تنظر إلى "إسرائيل" باعتبارها إحدى الدول النامية التي استطاعت أن تحقق نموًا اقتصاديًا سريعًا، وقد حاولت تركيا إقامة علاقات متوازنة من منطلق براجماتي مع كل من العرب والكيان الصهيوني، ولهذا اتسمت سياستها بالتذبذب، فعام 1967 أعلنت رفضها لضم الكيان للأراضي العربية، وقامت بالتصويت في الأمم المتحدة لصالح انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي المحتلة، غير أنها رفضت التصويت في نفس الفترة على القرار الذي أدان الكيان الصهيوني.
وإذا راجعنا حيثيات هذه العلاقة في ظل حكومة "العدالة والتنمية"، وإعادة النظر في الاتفاقيات المبرمة بين الجانبين، و"الفتور" في العلاقات الشخصية بين المسؤولين من الطرفين، بالإضافة الى التاريخ الذي يجمع بين كل منهما، نلحظ أنه إجراء تكتيكي ينتهي بمجرد زوال أزمة بسيطة من جهة، ونوع من المراجعة العامة من قبل أنقرة من جهة أخرى. ولذا لا بد من لمحة عامة حول ماهية هذه العلاقة والروابط التي تحكمها.
العلاقة التاريخية والايديولوجية بين اليهود وتركيا
يسود اعتقاد لدى اليهود بأن سفينة نوح قد استقرت بعد الطوفان على قمة جبل أرارات في سلسلة جبال طوروس وعلى مقربة من مثلث الحدود الراهنة مع كل من أرمينيا وإيران. إلا أنه وبعد أن حدثت الهجرة اليهودية الكبيرة باتجاه آسيا الصغرى في عهد الإمبراطورية العثمانية أصدر السلطان بايزيد الثاني (1481 – 1512)، خلف محمد الفاتح، دعوة رسمية إلى اليهود للاستقرار في بلاده على أثر حملة الاضطهاد التي تعرضوا لها في إسبانيا والبرتغال العام 1492. بعد هذا التطور تمتعت الجاليات اليهودية بكامل الاستقرار من خلال القانون الخاص بالملل غير الإسلامية الذي اعتمدته السلطنة العثمانية. ويقدّر عدد اليهود المقيمين في تركيا اليوم بـ 26.000 نسمة، وفق إحصاءات موثوقة، يعيش الجزء الاكبر منهم في اسطنبول، وبعضهم في أزمير وأنقرة واسكندرون. اللافت أن العلاقة الجيدة بين الجانبين استمرت حتى بعد إعلان ما يسمى "دولة إسرائيل"، رافقها اعتراف علني وصريح من الجانب التركي بالكيان الاسرائيلي، فضلًا عن تعزيز أسس التعاون في مختلف المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي تعدتها الى العمل السري الاستخباراتي. ويذكر بنّي موريس في كتابه "حروب إسرائيل السرّية" أن الموساد الإسرائيلي كان يعمل من الأراضي التركية للتسلّل إلى المناطق العراقية الكردية لتغذية الشعور الكردي الاستقلالي، ودفع الأكراد إلى الثورة على النظام العراقي من أجل إضعافه، وذلك بهدف إشغال الجيش العراقي في عمليات عسكرية داخلية لمنعه من المشاركة في إنشاء جبهة شرقية بالاشتراك مع سوريا والأردن.
العلاقة في المجالين الدبلوماسي والسياسي
تتمثل "إسرائيل" ببعثة ديبلوماسية كبيرة موزَّعة بين السفارة الموجودة في العاصمة أنقرة وقنصلية عامة في اسطنبول. وتوطدت العلاقة بعد تبادل متواصل للزيارات بين المسؤولين الكبار لدى الجانبين، وكذلك بعد أن دعي الرئيس الإسرائيلي لإلقاء خطاب في مجلس الأمة التركي، وكانت هذه المرّة الأولى التي يدعى فيها رئيس إسرائيلي لإلقاء خطاب أمام برلمان لبلد أكثرية سكانه من المسلمين.
أزاحت هذه الزيارة الستارة عن اختلاف في وجهات النظر بين الرئيس التركي السابق عبد الله غول والرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز حول مسألتين أساسيتين:
ـ الاولى: تتعلَّق بالمشروع النووي الإيراني، حيث اعتبر بيريز أنه لا يمكن أن يصدّق أن إيران التي تملك احتياطات كبيرة من النفط والغاز هي بحاجة إلى تطوير طاقة نووية لإنتاج الكهرباء. أما الموقف الذي عبّر عنه الرئيس التركي فقد تركّز على حق إيران ودول المنطقة الأخرى في امتلاك التكنولوجيا النووية للأغراض السلمية، بما فيها توليد الطاقة الكهربائية.
ـ الثانية: تتعلَّق بسياسة "إسرائيل" تجاه الفلسطينيين، والحصار الذي تفرضه عليهم في الضفة الغربية وفي قطاع غزة.
المجال الاقتصادي
في ظل النمو الكبير الذي شهدته العلاقات السياسية والديبلوماسية بين تركيا والكيان الصهيوني، كان من الطبيعي جدًا أن تنمو العلاقات الاقتصادية وتتطور، فقد وقّع الجانبان اتفاقية التجارة الحرة بينهما عام 2000، كما شملت خططهما توسيع عمليات التبادل التجاري بالاضافة الى النفط والغاز والكهرباء.
المجال العسكري
إضافة الى التعاون والتنسيق في مختلف المجالات، كان لا بد من تعزيز المجال العسكري، فقد شهد تطورًا ملحوظًا في مشروع تحديث الأسطول البحري وأسطول طائرات الفانتوم، وتطوير 170 دبابة من طراز M60A1، بالاضافة الى مشروع صواريخ دليلة الجوالة التي يبلغ مداها 400 كلم.
ويرى العديد من الخبراء الاستراتيجيين والعسكريين أن هذا التعاون بين تركيا والكيان الغاصب ساهم في تغيير موازين القوى في المنطقة. إلا أن الاعتداء على المركب "مافي مرمرة" المشاركة في اسطول الحرية عام 2010 والذي كان متوجها الى قطاع غزة لكسر الحصار الذي فرضته، دفع رئيس الوزراء التركي لوصف الهجوم بأنه يقع تحت "إرهاب الدولة"، وكان رد الفعل التركي سحب السفير التركي من "تل أبيب"، واستدعاء السفير الإسرائيلي في أنقرة إلى وزارة الخارجية لتقديم الشروحات اللازمة حول الهجوم، مما أدى إلى دخول العلاقات التركية ـ الإسرائيلية في مرحلة احتضار، وكان لا بدّ من أن تدرك الحكومة الإسرائيلية أن السياسة التركية الجديدة تجاه المنطقة هي سياسة براغماتية تخدم مصالـح تركيا العليا ومنها المصالح الاقتصادية التي تقضي باعتماد سياسة الانفتاح تجاه جميع الدول الشرق اوسطية ودول آسيا الوسطى.
تعوّل تركيا على "أهمية" الارتباط الإستراتيجي مع الكيان الصهيوني انسجامًا مع استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية التي ترى في هذه العلاقة مرتكزًا أساسيًا في الشرق الأوسط يؤثر بشكل فاعل في التفاعلات الدائرة على كافة المستويات، ومن هنا برزت الدوافع بين الطرفين لعقد مثل هذا التحالف ليصب في هذه الاستراتيجية. وبناءً عليه، تبدو عودة العلاقات التركية ـ الإسرائيلية إلى عهدها الودي غير بعيدة، خاصةً بعد إعلان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ترحيبه بإعادة تمتين الأواصر مع الكيان الصهيوني، من باب حرص تركيا على تعزيز مصالحها الشخصية.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024