آراء وتحليلات
دبلوماسية ماكرون والفشل في اختراق جدار الكرملين
د. علي دربج باحث ومحاضر جامعي
في 7 شباط/ فبراير الحالي، زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون موسكو، وأمضى أكثر من خمس ساعات يتحدث مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، في محاولة للتفاوض بشأن وقف تصعيد الأزمة الأمنية الحادة الحالية مع أوكرانيا. ثم توجه في اليوم التالي الى كييف، واجرى محادثات للغاية نفسها، مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
وهنا يطرح السؤال نفسه، ما هو الدور الذي يسعى اليه ماكرون؟
يحاول ماكرون القيام بعمل منفرد، أو لعب دور الوسيط، متجاوزًا تنسيق "نورماندي" الرباعي (أوكرانيا، روسيا، فرنسا، ألمانيا). فبعد تقاعد المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، يبدو أن المسرح الدبلوماسي الاوروبي اصبج متاحًا للرئيس الفرنسي أخيرًا ليتغلب على ألمانيا (ولو مؤقتا)، مستغلا غياب مستشارها الجديد اولاف شولتز، الذي لم يملأ الفراغ الذي تركته ميركل.
حاليا، تتولى فرنسا الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، وعليه يسعى ماكرون -الذي يرشح نفسه لإعادة انتخابه لولاية جديدة- لان يقدم نفسه كصانع سلام رئيسي وزعيم الاتحاد الأوروبي في المفاوضات مع روسيا، متجاهلا حقيقة أن فرنسا تفتقر إلى القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية للضغط من جانب واحد على روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة أو الدول الأوروبية الرئيسية لتقديم تنازلات للشروع في الحل السياسي.
ما الذي أراده ماكرون من زيارته لموسكو؟
بالنسبة لماكرون، فإن فرصة قيادة الجهود المبذولة لإنشاء بنية أمنية أوروبية جديدة، وضعته في مقدمة ومركز ربما أكبر مما كان يحلم به طوال فترة رئاسته، كما منحته هامشا لتولي دور قيادي أكبر لأوروبا بأكملها، فضلا عن انها اعطت بعض الروح لرؤيته العظيمة لأوروبا المتحالفة مع الولايات المتحدة، ولكنها أكثر استقلالية عنها.
وفي هذا الاطار، سأل برونو لومير ـ وزير الاقتصاد الفرنسي ـ المقرب جدًا من ماكرون، الاسبوع الماضي " في الوقت الذي أعلنت فيه روسيا والصين عدم وجود حدود" لصداقتهما، هل نريد روسيا متحالفة تمامًا مع الصين، أم روسيا في مكان ما بين الصين وأوروبا؟ داعيا الناتو إلى "التخلي عن مقاربته الأيديولوجية للحرب الباردة".
وانطلاقا من هذه النقطة، كان لدى الرئيس الفرنسي هدف مزدوج: وقف الحرب التي يسعرها تركيز هائل للقوات الروسية على الحدود الأوكرانية، وتهدئة المظالم الروسية المتفاقمة التي أثارها توسع الناتو شرقاً في عامي 1999 و2004 .
لكن مهلا، فإن ماكرون حقق هدفا ثالثا خفيا خلال زيارته موسكو، الا وهو الاستثمار في الانتخابات الفرنسية المقبلة، اما كيف؟ فالاجابة في السطور التالية.
عمليا، تتناسب مبادرة ماكرون مع جهود إعادة انتخابه في الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في نيسان/أبريل المقبل، والتي تشير تقييمات استطلاعات الرأي إلى ان وضعية ماكرون فيها غير مستقرة، ومنافساه الرئيسيان- المحافظان القوميان إيريك زيمور ومارين لوبان- من المؤيدين الصريحين لروسيا. من هنا قال ماكرون إنه "سيعلن ترشيحه رسميًا بعد تحقيق نتيجة مهمة في بعض مجالات السياسة".
تعدّ مغازلة بوتين لتجنب غزو أوكرانيا، على حساب إجبار أوكرانيا على الامتثال لـ "اتفاقيات" مينسك، فرصة امام ماكرون لتحقيق نجاح سريع قبل الانتخابات والظهور كزعيم أوروبي في ذات الوقت.
فموسكو لا تلعب أمام زيمور ولوبان ضد ماكرون. على العكس من ذلك، يسمح الكرملين لماكرون بالاستفادة من علاقته مع بوتين انتخابيًا. وبحسب دبلوماسيين فرنسيين، سيمنح الكرملين ماكرون بسهولة "اختراق" دبلوماسيته بشأن أوكرانيا، ولكن فقط بشروط روسيا الخاصة، كما أصر بوتين في محادثاته مع ماكرون في موسكو.
كيف كانت اجواء ماكرون في موسكو؟
في موسكو بدا ماكرون متفائلا، معلنا أن بوتين وعد "بعدم الشروع في أي تصعيد آخر". ووفقًا لماكرون، فقد وعد زعيم الكرملين أيضًا بسحب القوات الروسية المنتشرة في بيلاروسيا كجزء من مناورة عسكرية مكثفة.
لكن اللافت -وفي خطوة يراد منها خطب ودّ بوتين- انه وقبل قمته مع الرئيس الروسي، أخبر ماكرون الصحفيين بضرورة احترام المخاوف الأمنية الروسية المشروعة واحترام "الأمة الروسية العظيمة ومظالمها التاريخية".
بالمقابل، تأمل القيادة الروسية بأن تنجح فرنسا، جنبًا إلى جنب مع الحكومات الغربية الأخرى، في الضغط على كييف لبدء محادثات مباشرة مع السلطات المعينة من قبل الكرملين في الكيانات الموالية لروسيا في دونباس، وبالتالي وضعها على قدم المساواة مع الأوكرانيين المنتخبين.
تعتقد موسكو أن هذه الاتفاقات يجب أن تحول أوكرانيا إلى اتحاد كونفدرالي يكون فيه لدونباس التابع لروسيا نظام اقتصادي وسياسي منفصل مرتبط بشكل وثيق بروسيا، إلى جانب جيش مستقل. وبالتالي يمكن لمثل هذا الترتيب أن يحظر أي محاولة من قبل كييف للانضمام إلى حلف (الناتو) أو الاتحاد الأوروبي، مما يضمن وجود أوكرانيا المحايدة والموالية لروسيا بشكل دائم. وبحسب ما ورد، ربما ناقش ماكرون مع بوتين وضعًا محايدًا دائمًا مضمونًا لأوكرانيا كوسيلة لنزع فتيل الوضع الحالي وتخفيفه.
هل حققت زيارته الروسية النتائج المرجوة؟
أظهر الإيجاز المشترك الختامي أن ماكرون يردد ما قالته روسيا: "لا يمكن حل المسألة الأوكرانية إلا سياسياً على أساس اتفاقيات مينسك. صيغة نورماندي يجب أن تواصل الجهود من أجل التنفيذ الكامل لاتفاقات مينسك، بشكل كامل ودقيق".
ليس هذا فحسب، اعترف ماكرون بأن الإصلاح الدستوري الأوكراني، والوضع الخاص لمنطقة دونيتسك ـ لوهانسك، والانتخابات هناك، كلها قيد النظر حاليًا، هي قضايا حساسة للغاية، وسوف تكون محل نزاع "من قبل أوكرانيا". واضاف "إن اتفاقيات مينسك هي التي يمكنها حقًا حل الأزمة الأوكرانية، وهذا ما سأقوله للرئيس زيلينسكي".
اتفاقيات مينسك هي السبيل الوحيد للسلام!
في كييف، ألقى ماكرون الرسالة الدبلوماسية كما وعد نيابة عن بوتين وعن نفسه: "اتفاقيات مينسك هي السبيل الوحيد للسلام"، كما قال للرئيس زيلينسكي في مؤتمرهما الصحفي المشترك، "كما أخبرت الرئيس بوتين، (السلام) يقوم بشكل صارم على اتفاقيات مينسك".
حاول ماكرون حشر زيلينسكي علنًا في موقف لا يمكن الدفاع عنه، ونسب له هذه الكلمات: "أكدت أوكرانيا أنها مستعدة للمضي قدمًا في اتفاقيات (مينسك) هذه. والرئيس بوتين، اكد خلال حديثنا عزمه على مواصلة الالتزام باتفاقيات مينسك. واليوم، سمعت منك أنك مستعد أيضًا لتنفيذ هذه الاتفاقيات".
كانت هذه بالتأكيد بطاقة تقرير ماكرون إلى بوتين، لكنها لم تنجح، إذ ما لبث ان رفض المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف ذلك قائلا "لم نسمع أي كلمات من الرئيس زيلينسكي بأنه مستعد لبدء الوفاء بالتزامات كييف في أي وقت قريب، ولا توجد مثل هذه الكلمات".
علاوة على ذلك، فُسّر تأكيد ماكرون لزيلينسكي بأن بوتين ملتزم بوثائق مينسك، ضمنيًا، على أن بوتين يفضل تنفيذ هذا الحل بموافقة أوكرانيا، بدلاً من الاضطرار إلى فرضه بغزو أوكرانيا.
غير أن هذا التلميح دفع زيلينسكي إلى الرد بأنه لا يتوقع من بوتين الأقوال بل الأفعال، بدءًا من وقف التصعيد العسكري على حدود أوكرانيا. ليس هذا فحسب، إذ ان السلطات الأوكرانية، رغم استعدادها لدعم وقف إطلاق النار في دونباس، تواصل رفض تنفيذ التفسير الروسي لاتفاقات مينسك، على الرغم من الضغوط الأخيرة من ماكرون.
ومع ذلك اظهر الرئيس الأوكراني بعض الضعف من خلال توقِه "لقمة نورماندي" المقبلة (المقرر عقدها في المانيا)، التي من المعروف أنه ينتظهرها كفرصة للقاء بوتين على المستوى الثنائي. ولكن يتعين عليه دفع ثمن هذه القمة من خلال التنازلات السياسية لروسيا.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024