آراء وتحليلات
"وول ستريت جورنال" والتحريض على النووي الإيراني: ماذا عن المال الخليجي؟
د. علي دربج - باحث ومحاضر جامعي
في الوقت الذي تتوارد فيه الأخبار عن قرب عودة واشنطن الى الاتفاق النووي مع ايران، بدأت بعض الأقلام الصحافية الغربية المرتبطة بمشيخات الخليج بالنحيب والصراخ موجهة سهامها ضد هذه الخطوة المنتظرة، في انعكاس واضح للتوتر والغضب، حيث يعيش حكام الامارات والسعودية أيامًا عصيبة هذه الفترة.
ففي الأيام القليلة الماضية، أفردت صحف أميركية مرموقة كـ"وول ستريت جورنال" (وبتحريض من الرياض وأبو ظبي)، صفحاتها للهجوم على ادارة الرئيس الاميركي جو بادين، في انحياز واضح لرغبات قادة الخليج ضد السياسة التي ينتهجها الرئيس الأميركي، مع ايران.
إذ نشرت هذه الصحيفة الاثنين الفائت، مقالاً افتتاحياً يقول إن الولايات المتحدة بحاجة إلى "إعادة الالتزام" بالشرق الأوسط. وألقى كاتب المقال فراس مقصد، باللوم بشكل أساسي على إدارة بايدن لرفض قادة السعودية والإمارات الطلبات الأمريكية المتكررة بإدانة العمليات الروسية ضد أوكرانيا، وكذلك امتناعهم عن المساعدة في خفض أسعار النفط - وسط الحظر المفروض على الخام الروسي - فضلا عن تحميله بايدن مسؤولية عدم إجابة هؤلاء الحكام على المكالمات الهاتفية للرئيس الأميركي وفقًا لمزاعمه.
ويذهب الكاتب أبعد من ذلك، عبر استعراضه مجموعة تحذيرات من أنه إذا جرى تحويل الولايات المتحدة أيًّا من قدراتها وقواتها العسكرية بعيدًا عن المنطقة، فسوف تتولى الصين وروسيا زمام الأمور بديلًا عن واشنطن.
أما النقطة الأهم التي يقف عندها مقصد، فتتمثل بمقاربته لقضية استعادة الاتفاق النووي الإيراني (والتي يهدف من ورائها الى التهويل واثارة الرأي العام الأميركي ضد الاتفاق، وليس نقد سلوك واشنطن البلطجي في الشرق الاوسط)، إذ يقول إن "الردع الأمريكي في جميع أنحاء المنطقة يتضاءل". وخلص مقصد الى أن الحل لكل هذه الفوضى المزعومة، هو أن توفد الولايات المتحدة مبعوثًا خاصًا إلى الشرق الأوسط "لاستعادة الثقة ورفع مستوى العلاقة"، وفي الوقت نفسه "تلبية الطلبات" لكل من السعودية والامارات، وتزويدهما بأنظمة الدفاع المضادة للصواريخ.
لكن لماذا الدفاع المستميت عن النظامين السعودي - الاماراتي؟
بغض النظر عن الخط السياسي لهذه الصحيفة الاميركية المرموقة، والتي تدعي التزامها بالقواعد المهنية كالحياد والموضوعية والشفافية، لكنها أظهرت وبالدليل القاطع أنها تفتقر لادنى المعايير الاخلاقية لمهنة الصحافة، إذ انها لم تكشف عن تضارب محتمل في المصالح، من حيث إن المؤلف جزء من مركز أبحاث في واشنطن، تلقى وما زال تمويلًا كبيرًا من الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، وله مصالح مالية شخصية في المنطقة.
ومع أن "وول ستريت جورنال"، وصفت مقصد بأنه "أستاذ مساعد في جامعة جورج واشنطن" و"زميل أول في معهد الشرق الأوسط"، لكنها لم تكشف عن علاقات "المعهد" المالية القوية مع الرياض وأبو ظبي.
ما يجدر معرفته، انه في السنوات الخمس الماضية وحدها، تلقى المعهد ملايين الدولارات من الإمارات، وما لا يقل عن مليون دولار من شركة النفط السعودية العملاقة المملوكة للدولة "ارامكو". زد على ذلك ان ابو ظبي هي أكبر ممول منفرد لمعهد الشرق الأوسط.
من هو مقصد؟ وما علاقته باللوبي الاماراتي؟
مقصد ليس مجرد "زميل أول" في معهد الشرق الأوسط كما تقول الصحيفة، بل هو أيضًا "مدير التواصل الاستراتيجي" في المعهد وهو منصب يتضمن بحسب صفحة السيرة الذاتية "للمعهد"، العمل على "ارتباطات استراتيجية لجمع التبرعات مع مانحين من الشركات والأفراد". بالإضافة إلى عمله كرئيس تنفيذي للمؤسسة العربية السعودية، وهي مؤسسة فكرية مؤيدة للسعودية في واشنطن، فإن مقصود هو أيضًا المؤسس والعضو المنتدب لشركة Global Policy Associates - وهي شركة استشارية تقوم بالبحوث والشؤون الحكومية وأعمال الاتصالات - والتي تضم معهد الشرق الأوسط في قائمة عملائها.
أكثر من ذلك، فإن قائمة عملاء GPA تشمل أيضًا Teneo، وهي شركة استشارية عالمية لها علاقات قوية بمنطقة الخليج في مجالات وفقًا لـ Bloomberg، "مثل استشارات المخاطر والاتصالات والاستشارات الإدارية".
اللافت أن مجموعة Harbour Group ــــ وهي لاعب رئيسي في جهود الضغط لصالح الإمارات، في واشنطن ـــ اتصلت بـمقصد "عدة مرات" في ايار وتشرين الثاني 2021، وفقًا لإفصاحات قانون تسجيل الوكيل الأجنبي في اميركا، وشملت تلك الاتصالات مواضيع مثل الجيش الإماراتي، وشرائه طائرات اميركية من طراز F-35، فضلا عن اتفاقية التطبيع بين الإمارات و"إسرائيل".
في المحصلة فإن ما يسعى إليه مقصد بالدرجة الأولى، هو أن تساعد مقالته الافتتاحية في وول ستريت جورنال ـــ التي تدعو إلى المزيد من الالتزامات الدفاعية من الولايات المتحدة للإمارات والسعودية ـــ في إقناع المسؤولين الإماراتيين والسعوديين بتقديم تبرعات إضافية إلى "معهد الشرق الأوسط".
فهذا النوع من النفوذ الأجنبي الخفي، أصبح شائعًا في واشنطن في العقود الاخيرة. فالمؤسسات الفكرية الاميركية، التي تتلقى تمويلا مباشرا من ممالك النفط الخليجية وتتباهى بـ"الديمقراطية العظيمة فيها"، باتت تلعب دورا مؤثرا في الدفاع عن مصالح هذه الحكومات (السعودية والاماراتية تحديدا)، إضافة الى ان لها اليد الطولى في التأثير في السياسات المتعلقة بالرياض وابو ظبي، حتى لو كانت في بعض الأحيان تتعارض مع مصالح واشنطن (كما في حال دفاعهم عن تزويد حلفاء واشنطن بالسلاح لقتل اطفال اليمن، الامر الذي هشم صورة اميركا). فعندما يحضر المال تزول القيم الجوفاء التي تتشدق بها هذه المؤسسات.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024