آراء وتحليلات
كازاخستان تنقلب على موسكو وتتحداها.. هل تسير نحو النموذج الأوكراني؟
د. علي دربج ـ باحث ومحاضر جامعي
لطالما اعتمدت روسيا على كازاخستان كأقرب شريك لها في آسيا الوسطى. لكن التطورات التي حصلت منذ انطلاق العمليات العسكرية في اوكرانيا، والتغيير الذي طرأ على مواقف بعض السياسيين الرسميين الكازاخستانيين تجاه موسكو، ومجاهرتهم بمعارضة معاركها الحربية ووصفها بـ"الحرب" (في تحدٍّ أوضح لروسيا)، واعلانهم الاستعداد للتجاوب مع العقوبات الغربية على روسيا، هو سلوك لا يصدر عن دولة حليفة كان الكرملين ينظر إليها كأحد الأبواب الرئيسية لتخفيف الضغوط الاقتصادية والدبلوماسية القصوى التي ينتهجها الغرب ضد موسكو، نظرًا لموقعها الجغرافي في أوراسيا والاستفادة من علاقتها مع الصين وقربها منها.
ما صدى هذه التغيرات في الأوساط الروسية؟
عند مراقبة هذه المتغيرات، من الطبيعي الاستنتاج أن الروس غاضبون من عدم دعم الدولة الواقعة في آسيا الوسطى عملياتهم العسكرية (وهم من مدّ لها يد العون، يوم كانت كازاخستان في مهب السقوط بعد الاحتجاجات التي شهدتها في كانون الثاني/ يناير الماضي)، بل راحت تتخذ مواقف علنية من شأنها الطعن في جميع خطوات الكرملين تجاه أوكرانيا، وهو ما عكسته كتابات بعض الصحفيين الروس الذين استخدموا لغة هجومية بشكل متزايد، مثل تسمية الكازاخ "النازيين الصغار" أو القول إن "كازاخستان في طريقها لأن تصبح أوكرانيا ثانية".
جادل هؤلاء الكتّاب بأنه ما لم تغير ألماتي الكبيرة (أكبر مدينة في كازاخستان) مسارها الحالي، فإنها ستعاني بشدة بسبب تمنعها عن دعم موسكو.
ما هي هذه الشكاوى؟
لا تخفي هذه الشريحة النخبوية الروسية (أي الكتّاب) خيبة أملها من كازاخستان، فهي مستاءة من سماح ألماتي بالمظاهرات المؤيدة لأوكرانيا بينما تحظر تلك الموالية لروسيا، وغاضبة من أن السلطات الكازاخستانية أذنت لمواطنيها بتنظيم المساعدات الإنسانية لأوكرانيا، وليس لدونباس، ولأنه بدلًا من قضاء الحكومة الكازاخستانية على "الروسوفوبيا" أو كراهية الروس (بعد الاحتجاجات التي عصفت بالبلاد واخمدتها موسكو)، أجازت للجماعات التي تعتبرها موسكو معادية لروسيا بتشكيل حزب سياسي جديد.
ماذا عن مضمون تصريحات بعض المسؤولين الكازاخستانيين التي تشكل خطرًا على موسكو؟
قد تبدو جميع هذه الأمور والتصرفات المذكورة أعلاه بسيطة ويمكن هضمها أو التغاضي عنها روسيًا، مقارنة مع التصريحات الصادمة التي أدلى بها تيمور سليمانوف، النائب الأول لرئيس الإدارة الرئاسية في كازاخستان ـ في مقابلة أجرتها معه مؤخرًا شبكة EURACTIV الأوروبية ـ خلال زيارته لمسؤولي الاتحاد الأوروبي في بروكسل في 29 اذار/ مارس الماضي، حيث رفض سليمانوف جميع مواقف موسكو بشأن أوكرانيا. وقال إن "كازاخستان لن تكون أداة للالتفاف على العقوبات المفروضة على روسيا التي فرضها كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي". وأضاف إن كازاخستان ستصف ما تفعله روسيا في أوكرانيا بأنه حرب بغض النظر عما تقوله موسكو، وأنها (أي كازاخستان) لم ولن تعترف بشبه جزيرة القرم كجزء من روسيا، وهي تعمل جاهدة على تنويع طرق تصديرها من أجل تجاوز الأراضي الروسية.
الأكثر أهمية واثارة للجدل في كلام سليمانوف هو أن المسؤول الكازاخستاني الكبير كشف عن أن كازاخستان لا تريد أن توضع "في نفس السلة" مع روسيا، مؤكدًا أن وضعها كدولة مستقلة وعضويتها في الأمم المتحدة، أكثر أهمية فيما يتعلق بهذه القضايا من عضويتها في "الاتحاد الاقتصادي الأوراسي" بقيادة موسكو ومنظمة "معاهدة الأمن الجماعي".
كيف تنظر موسكو لهذه المواقف الكازاخستانية المتغيرة؟
تشير مواقف سليمانوف إلى أن كازاخستان ربما تكون بعيدة عن روسيا فيما يتعلق بالصراع الأوكراني أكثر من أي دولة أخرى في فترة ما بعد الاتحاد السوفياتي، على الرغم من حقيقة أن موسكو كانت تتوقع بوضوح أن تكون من بين أقرب مؤيديها.
حتى الآن، لم يستخدم كبار المسؤولين الروس لغة تصعيدية بنفس القدر. ومع أن موسكو هي الأكثر انزعاجًا من مواقف كازاخستان بشأن معاركها الحربية نفسها ونظام العقوبات، لكن اهتمامها منصب الآن على مواجهة تحديين أكبر وأطول أجلاً هناك. تسعى كازاخستان الآن، وفقًا لسليمانوف، إلى إنهاء أكبر نفوذ لروسيا على هذا البلد، وهذا بالتأكيد لن يمر مرور الكرام عند موسكو.
في الوقت الحاضر، يمر أكثر من 90 بالمائة من نفط كازاخستان عبر روسيا، غير أنه كما أوضح الرئيس قاسم جومارت توكاييف، فإن الإدارة الكازاخستانية تعمل جاهدة لتغيير ذلك، وتتطلع شرقًا إلى الصين، وأكثر من ذلك نحو بلدان جنوب القوقاز. ولهذه الغاية، وقعت كازاخستان، مؤخرًا، اتفاقية مع جورجيا لتوسيع التجارة عبر تلك المنطقة، متجاوزة روسيا في الجنوب، كذلك تسعى لفعل الشيء نفسه مع أذربيجان، إضافة الى أنها تعمل على توسيع طاقتها الملاحية في بحر قزوين لتحقيق هذه الأهداف.
ومن ناحية أخرى، فإن كازاخستان لا تشبه بشكل تدريجي دول آسيا الوسطى الأخرى فحسب، بل هي أقرب من نواح كثيرة لتلك الموجودة في شرق أوروبا أيضًا، على الأقل فيما يتعلق ببناء الأمة. في العهد السوفياتي، اعتاد الروس على الإشارة إلى المنطقة الجنوبية للاتحاد باسم "آسيا الوسطى وكازاخستان" لأن الأخيرة كانت تتمتع بتعددية عرقية روسية بشكل فريد.
ولكن بسبب مغادرة الروس لها منذ 1990، وارتفاع معدل النمو بين الكازاخستانيين، لم يعد هذا الواقع كما كان عليه سابقًا. فالأقلية الروسية هناك الآن، أصغر من أن تضمن بقاء كازاخستان إلى الأبد ضمن دائرة النفوذ الروسي، إلا إذا تدخلت موسكو.
ولعل الأخطر بالنسبة لموسكو أن كازاخستان، باتت مهيأة لتصبح مثل أوكرانيا ودول أوروبا الشرقية الأخرى من حيث إنها أيضًا تتجه لبناء هوية وطنية قائمة على الثقافة والتاريخ واللغة بدلاً الارض، بعكس رؤية الاتحاد الروسي.
وعليه، وكون هذه الأنماط المتباينة لبناء الأمة، كانت جزءًا من الأزمة بين موسكو وأوكرانيا (إضافة الى تمدد الاطلسي الى اوكرانيا المشكلة الأساس بالنسبة لموسكو)، فمن المتوقع أن تحصل مشاكل مماثلة في العلاقة الروسية مع كازاخستان في المستقبل.
وبناء على ذلك كله، فإن السؤال الذي يطرح نفسه، هل تتحول كازاخستان الى أوكرانيا ثانية فعلا؟ وبمعنى مزدوج، سواء كدولة أخرى تتحرك بسرعة بعيدًا عن روسيا، أو دولة قد لا تتمكن روسيا ــ في ظل هذه الظروف والمصاعب التي تمر بها ــ من إيقافها رغم التهديد الذي يمثله هذا الانفصال النهائي عن روسيا. ما يجدر الالتفات اليه أن ألماتي ليست كييف، ولن يهبّ الغرب لمساعدتها بذات الدرجة اسوة بأوكرانيا.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024