معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

هل بدأ بوتين فعلاً حرب إسقاط أمريكا؟
28/04/2022

هل بدأ بوتين فعلاً حرب إسقاط أمريكا؟

محمد أ. الحسيني    

 

قد يعتبر البعض أن عنوان هذا المقال يندرج في إطار الشحن الإعلامي والحماسة المعنوية الناتجة عن تضخّم الشعور بالحنق السياسي والنفسي ضد المحور الغربي التي تتزعّمه الولايات المتحدة، وأنه يعكس آمال شرائح من المجتمعات، التي ضاقت ذرعاً بالتسلّط الأمريكي على العالم، بالتخلّص من نير الاستبداد الغربي على يد المحور الشرقي التي تتزعمه روسيا ومعها الصين. هذا الشعور موجود فعلاً، ولكن ليس هو الذي يدفع إلى الاستنتاج أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد بدأ فعلاً بمعركة إسقاط أمريكا، ولهذا الاستنتاج مفرداته ومعطياته التي بدأت تتمظهر بشكل حقيقي على الأرض تحت عنوانين رئيسيين: الحرب العسكرية والاقتصاد.

بوتين يعتمد سياسة الانتشار المتدرّج

اجتازت "الحرب على النازية"، كما يسمّيها الروس، أيامها الـ 64 وسط تغيير ملحوظ في التكتيكات العسكرية والأمنية المتّبعة من قبل القيادة الروسية. ويتّضح لأي متابع أن موسكو ماضية في انتشارها المتدرّج لتطبق السيطرة على إقليم دونباس، وقضم المدن الرئيسية لتؤمن سيطرة جغرافية برية على امتداد جنوب أوكرانيا وسواحل بحر آزوف والبحر الأحمر وصولاً إلى حدود مولدوفا، وهكذا لا تعود روسيا بحاجة إلى الدخول في حرب استنزاف ميداني، فالأسلحة والصواريخ الدقيقة المستخدمة في ضرب الأهداف الأوكرانية على الجبهات المختلفة، وتدمير الإمدادات العسكرية الغربية في أي مكان حتى أقصى جنوب أوكرانيا، كفيلة بأن تؤتي ثمارها المرجوّة بالتوزاي مع دهاء سياسي، يشتهر به بوتين، يضمن له استثمارًا فعّالًا لوقائع الميدان على حلبة الضغط السياسي، مما سيدفع سلطة كييف عاجلاً أم آجلاً إلى رفع الراية البيضاء وفق شروط موسكو، وليس بحسب ما تمليه عليها واشنطن.

واشنطن تدفع لحرب عالمية لتستعيد دورها

هكذا يأمل بوتين، ولكن الوصول إلى ما يرمي إليه الرجل ليس سهلاً أبداً في ظل تأجيج واشنطن للدول الأوروبية والعالمية، واستنفار كل الأطراف الدولية وجمعها في حلف واحد لضرب روسيا، ولا تتوانى في ذلك عن إشعال البؤر المتوتّرة في الشرق ووضع حلفائها في حالة تحفّز عسكري كبندقية جاهزة للإطلاق في أي وقت. وهكذا يقسم العالم بين معسكرين يملكان قدرات تدميرية هائلة، الأول يجمع روسيا والصين وكوريا الشمالية، والثاني أوروبا والجمهوريات المنتشرة في أقصى الشرق من اليابان وصولاً إلى أوستراليا.

وتبدو بريطانيا - باعتبارها فتى أمريكا الشقي - الأكثر تحفّزاً في إشعال فتيل الانفجار، حيث انبرى مسؤولوها إلى التهديد بإمكان شنّ حرب نووية لردع روسيا، فيقابلها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بالتحذير من "وجود خطر حقيقي لنشوب حرب عالمية ثالثة"، ليسارع البنتاغون ووزير الحرب الأمريكي لويد أوستن إلى الإعلان أن الحديث عن احتمال نشوب حرب نووية "خطاب خطير"، مؤكداً أن "هذه حرب سيخسر فيها جميع الأطراف ولا أحد يريد مثل هذه النتيجة".

ولكن لا يمكن الركون إلى مثل هذا التصريح في ظل التحرّكات المكوكية التي يجريها المسؤولون الأمريكيون سعياً لتشكيل حلف عسكري عالمي يتولّى مواجهة روسيا، وهي تأمل في أن ترى هذا الحلف يخوض حرباً مدمّرة تقود إلى تحويل روسيا وأوروبا معاً وحلفائهما إلى أطلال دول، وهكذا فقط تستطيع أن تسترجع حضورها وتفرض نفسها لاعباً أوحد وأكبر في إعادة تشكيل النظام العالمي، وتستعيد تأثيرها في الساحة العالمية الذي تقهقهر كثيراً في السنوات العشر الماضية.

أمريكا أمام احتمال التورّط في الحرب

حتى الآن لم تنجح واشنطن في ربط الحبال بين الأطراف التابعة لها على موقف موحّد، ولم تستطع أن تثني موسكو عن تحقيق أهدافها، فلا يزال بوتين يدير اللعبة بهدوء عنيف دون أن يردعه أحد، غير عابئ بالمدّ الإعلامي – الدعائي الهائل الذي لا فعالية له إزاء نتائج الميدان، وهذا الواقع قد يدفع إدارة بايدن إلى اتباع خطوات متسرّعة سعياً لوقف الاجتياح الروسي الشامل، مما يستدرجها إلى مواجهة مباشرة في قيادة الحلف الذي تشكّله تحت مظلة الناتو، ومن هنا يمكن فهم التحذير الذي أطلقه بوتين من مغبّة تدخّل الأطراف الخارجية في الأحداث الأوكرانية وتوعّده بـ"رد صاعق"، مؤكداً أن "روسيا في حال تعرّضها لأي تهديد استراتيجي ستستخدم أسلحة لا يمتلكها أي من خصومها... وكل القرارت بهذا الشأن جاهزة".
هناك العديد من المعطيات التي ترجّح حصول هذا الاحتمال؛ فالإدارة الأمريكية لن تستطيع الاستمرار وحدها في تقديم الدعم المالي والعسكري لأوكرانيا، لا سيّما مع بروز مؤشرات على أن المضي في هذه الوتيرة سيقود إلى إفراغ المخزون العسكري الأمريكي في غضون أشهر، وفي موازاة ذلك لم تعلن أي من الدول الأوروبية استعدادها للدخول في مواجهة عسكرية مع روسيا وحدها فكيف إذا انضمت إليها الصين المندفعة في مواقفها العدائية ضد الولايات المتحدة، وكوريا الشمالية المتحفّزة لاستخدام "الردع النووي وإزالة أي قوى تسعى لمواجهتها عسكريا" على حد تعبير رئيسها كيم جونغ أون؟

أوروبا تتمرّد على بايدن

هذا على الجبهة العسكرية. ولكن ماذا على الجبهة الاقتصادية؟! تبدو موسكو حتى الآن هي الرابح، وليس في ذلك تحامل على الواقع، ولديها سلاحان أساسيان نجحت من خلالهما في تطويع أوروبا عملياً، الأول هو سلاح النفط والغاز، والثاني هو الروبل مقابل الدولار. هذا التحدّي الذي أعلنه بوتين منذ بدايات الحرب على النازية بدأ يحقق نتائجه مع خضوع العديد من الدول الأوروبية لشرط الدفع بالروبل مقابل إمدادات النفط والغاز، وبذلك يضرب بوتين عصافير كثيرة بحجر واحد، خصوصاً أن دول الاتحاد الأوروبي، وفي مقدّمتها ألمانيا وفرنسا، "لم تتوصّل حتى الآن إلى إجماع حول حظر استيراد النفط والغاز من روسيا"، حسبما صرّح المفوض الأعلى للسياسة الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد جوزيب بوريل، الذي أكّد أن بعض الدول "صرّحت بوضوح شديد بأنها لن تدعم فرض هذا الحظر".

العقوبات الأمريكية سلاح ذو حدّين

خضوع أوروبا أمام روسيا ليس مستغرباً نظراً لارتباط دولها بشكل كبير بشريان الطاقة الروسي، ولكن الطامة الكبرى ستصيب الولايات المتحدة نفسها، حيث إن سلاح العقوبات بدأ يرتد سلباً عليها وعلى الدول المشتركة معها في ذلك، مما يهدّد تسيّد الدولار كعملة نقدية احتياطية في العالم، وتحوّله إلى عملة غير موثوق بها في التعامل التجاري الدولي، فقد بدأت الدول الاقتصادية الكبرى (وأبرزها الهند والبرازيل والصين والكيان الإسرائيلي المؤقت) بتنويع احتياطاتها من العملات نحو الين واليوان والروبل إلى جانب اليورو، خوفاً من السيناريو نفسه الذي تواجهه روسيا اليوم. وللعلم فإن موسكو كانت السبّاقة إلى التخلّي عن الاعتماد على الدولار كاحتياطي من العملات الأجنبية، وبدأت باعتماد هذا الخيار عام 2014 بعد فرض العقوبات عليها بسبب ضمّها شبه جزيرة القرم، ففي آذار 2008 كانت روسيا تمتلك سندات في الخزانة الأمريكية بقيمة 96 مليار دولار لتصل في مطلع العام 2022 إلى 4.5 مليار فقط.

الروبل مقابل الدولار

لم تكن الولايات المتحدة تعبأ بكونها الدولة الأكثر مديونية في العالم بـ 23 تريليون دولار، وبديون خارجية تبلغ 7 تريليون دولار (حوالي 3 تريليون دولار قيمة السندات في الخزانة الأمريكية للصين واليابان وحدهما)، فإن 60 بالمئة من احتياطات البنوك المركزية في العالم هي بالدولار، و90 بالمئة من قيمة سوق التبادل العملات الأجنبية في العالم هي بالدولار، و40 بالمئة من تجارة السلع في العالم تتم بالدولار، ولكن المعادلة قد تغيّرت اليوم بعد انقلاب سحر العقوبات على واشنطن، فكيف ستتعامل مع إكراه موسكو للدول المعادية لها على دفع الروبل بدل الدولار؟! المؤكد أن الصراخ في الشارع الأمريكي والأوروبي سيتعالى كثيراً في المرحلة المقبلة بسبب ارتفاع الأسعار وازدياد نسب التضخم في منظومة الدول الأمريكية، ولن تنفع مطابع الدولار في معالجة المشكلة وتعويض العجز بل ستزيدها تعقيداً وتضخّماً، وفق آراء خبراء الاقتصاد.

أمريكا ومحورها لم تستطع تحقيق أهدافها، وهذه خسارة في حدّ ذاتها، ولا تظهر في الأفق أي إمكانية لهذا المحور لتحقيق انتصار، بل إن انحدار المسار يؤشر إلى هزيمة وخسارة أمريكية حقيقية، ومن المنطقي ألا يكون هذا الواقع خافياً على مسؤولي التخطيط والقرار في واشنطن، وسيجدون أنفسهم أمام نفق مغلق، ولن يعود هناك من خيار إلا الانتحار، وهكذا يكون بوتين قد بدأ فعلاً بحرب إسقاط أمريكا.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات