آراء وتحليلات
عن أرقام الفقر والمآسي في امريكا.. وعنصرية كورونا تجاه الملونين
د. علي دربج باحث ومحاضر جامعي
عند قراءتنا لميزانيات وزارة الحرب الامريكية الخيالية والتي تفوق المدخول السنوي لعشرات الدول الكبرى والصغرى مجتمعة، ومقارنتها بأرقام الفقر والوفيات والنقص في الغذاء والفوارق الطبقية والعنصرية فيها، نعي حينها ان خلف الصورة الظاهرية الخادعة والبراقة لامريكا، توجد ازمات ومآسٍ انسانية لا يعرفها كثيرون حول العالم، ولا يتطرق اليها غالبية الاعلام الامريكي المنصرف حاليا الى خوض معركة كسر روسيا في أوكرانيا.
من كان يعلم ان هناك 140 مليون أمريكي (بحسب احدى المنظمات الوطنية الأمريكية المعنية بالفقراء)، يصنفون من الفقراء أو ذوي الدخل المنخفض، حيث يعيش هؤلاء على مفترق طرق مظلم، نتيجة الاذى والغبن اللاحق بهم، فضلا عن الشرور المتشابكة التي تحيطهم، بدءا من تغير المناخ والنزعة العسكرية ووصولا الى معاناتهم الدائمة مع العنصرية، إضافة الى أشكال أخرى من العنف المعنوي والجسدي وعدم المساواة التي يتعرضون لها في نواح كثيرة من حياتهم اليومية؟
فمع ارتفاع أسعار الغاز بسبب استمرار العملية العسكرية الروسية في اوكرانيا، ونقص الغذاء وازدياد اسعاره، واحتمال حدوث ركود (أو ما هو أسوأ) يلوح في الأفق، فإن فقراء امريكا خصوصا اصحاب البشرة السمراء منهم ــ الذين ما زالوا يعانون أكثر من غيرهم ــــ سيكونون الأكثر تضررًا من كل ما هو آت.
تأثير وباء "كورونا" على فقراء أمريكا وكيف ميّزهم عن الاغنياء
كشف أحدث تقرير حول الآثار غير المتناسبة لوباء كوفيد-19 على المجتمعات الفقيرة في الولايات المتحدة، كانت وضعته كل من "حملة الفقراء" و"شبكة حلول التنمية المستدامة" التابعة للأمم المتحدة أنه خلال الوباء حتى الآن، شهدت المقاطعات الامريكية الفقيرة، ضعف عدد الوفيات مقارنة بالمقاطعات ذات الدخل المرتفع، وما يصل إلى خمسة أضعاف في ذروة موجات الوباء المختلفة.
فمن بين حوالي أكثر من ستة ملايين حالة وفاة في جميع أنحاء العالم تسبب بها COVID-19، كانت حصة الأسد من نصيب الولايات المتحدة، والأكبر من أي بلد آخر، حيث قاربت مليون حالة وفاة حتى الآن استنادا لاحصاءات "مدرسة طب جامعة جون هوبكنز" في اذار/ مارس الماضي. (وهناك من يقول ان الاعداد الحقيقية مجهولة).
وعلى الرغم من ان امريكا واحدة من أغنى البلدان في العالم، إلا ان معدل الوفيات فيها، عُد الاعلى قياسا مع البلدان الأخرى ذات الدخل المرتفع، كما صُنّف من بين أعلى 20 دولة في جميع أنحاء العالم (بحسب منظمة الصحة العالمية في اذار/مارس 2022).
علاوة على ذلك، تركزت حصيلة ضحايا الوباء في امريكا على الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاما، حيث شكلوا 75 بالمائة من إجمالي الوفيات، إذ لقي 1 من كل 100 أمريكي مسن حتفه، مقارنة بـ 1 من كل 1400 شخص دون سن 65 عاما.
اللافت في الامر، ان معدلات الإصابات بكورونا، ودخول المستشفيات، والوفيات كانت الاعلى بين الأشخاص الملونين. فالهنود الأمريكيين أو سكان ألاسكا الأصليين، كانوا أكثر عرضة بـ 3.1 مرات للدخول إلى المستشفى، والسود أو الأفارقة، اكثر بـ 2.5 مرة (اكثر عرضة لدخول المستشفى)، و 1.7 مرة أكثر عرضة للوفاة، والأشخاص من أصل إسباني أو لاتيني أكثر احتمالا للإصابة بالوباء بمقدار 1.5 مرة، و 2.3 مرة أكثر عرضة للدخول إلى المستشفى.
ليس هذا فحسب، فقد انهك الوباء الولايات المتحدة، بعدما أدى إلى زيادة حالات الأشخاص الذين يعانون من إعاقات وصلت الى حوالي 1.2 مليون امريكي، أي شخص واحد من كل أربعة بالغين يعانون من إعاقات في الولايات المتحدة.
والانكى، ان معظم الامريكيين تعذّر عليهم الحصول على موارد الرعاية الصحية اللازمة للعلاج، كونها كانت غير كافية أثناء الوباء، هذا عدا عن معدلات بطالة أعلى ووظائف منخفضة الأجور.
وانطلاقا من ذلك، فإن كوفيدـ19 كان في الواقع وباء الفقراء في امريكا، وهو كشف عمق العنصرية والفقر والدمار البيئي الذي سبقه في المجتمعات المنكوبة بالفقر. ومع ذلك طوال فترة الوباء، لم تتم تغطية قصة تأثيره غير المتكافئ، بشكل كافٍ من قبل وسائل الإعلام الرئيسية.
ما هي اسباب هذه الإصابات والوفيات المرتفعة؟
في الحقيقة فإن مسؤولية بلوغ الارقام اعلاه هذه المستويات القياسية، تعود بالدرجة الاولى الى المسؤولين الامريكيين، نتيجة تقصيرهم وإهمالهم وأحيانًا بسبب قرارات عنصرية متعمدة بعدم التركيز على الفقراء.
فعلى سبيل المثال، لم يكن لدى 22 بالمائة من الأمريكيين الأصليين، و20 بالمائة من ذوي الأصول الإسبانية، و11 بالمائة من السود، و7.8 بالمائة من البيض، و7.2 بالمائة من الآسيويين تأمين صحي في عام 2019 قبل انتشار الوباء مباشرة.
لم يقف الأمر عند هذا الحدّ، فقبل تفشي الوباء كان هناك 87 مليون شخص لم يحصلوا على تأمين صحي، أو ان تأمينهم كان ناقصًا، و39 مليون عامل يتقاضون اجورا زهيدة لا تكفي حتى لمعيشتهم.
اكثر من ذلك، لم يكن بمقدور 14 مليون أسرة، قبل وصول الوباء، دفع فواتير المياه الخاصة بهم، والاهم ان نصف الاطفال الأمريكيين يعيشون في منازل تعاني من انعدام الأمن الغذائي. وعليه، لم يعد مستغربا أن الكثير من الفقراء ومنخفضي الدخل عانوا وماتوا مع وصول الفيروس اليهم.
ماذا عن الكوارث الاجتماعية الأخرى؟
نظرا لوجود هذه المآسي والاوضاع المزرية في مناطق امريكية متعددة (قد تحتاج الى كتب لعرضها) سنكتفي بذكر حالتين.
الاولى في المنطقة الشمالية من ولاية فرجينيا الغربية. في تلك المقاطعة جرى بناء مصنع Rockwool Ranson، لتصنيع المواد العازلة في مجتمع فقير. الطامة الكبرى، انه بمحاذاة المصنع، توجد مدرسة نورث جيفرسون الابتدائية التي لا تبعد سوى مبانٍ معدودة فقط عن المصنع، وهي للمفارقة تقع ايضا على بُعد حوالي ميلين (3,2 كيلومتر) عن أربع مدارس عامة تضم 30 بالمائة من طلاب المقاطعة (بالإضافة إلى العديد من مراكز الرعاية النهارية).
اختبر العلماء مستويات الدم لدى الأطفال في مدرسة نورث جيفرسون قبل افتتاح المصنع في عام 2021 وهنا وقعت المفاجأة. فبعد عام واحد فقط، كانت هناك بالفعل معدلات أعلى من الربو والسموم في دمائهم. ما يجدر معرفته ان وضع هذا المصنع يتعارض مع توصيات وكالة حماية البيئة الامريكية ومنظمة الصحة العالمية (WHO)، وكلاهما يؤكد أن الصناعات الثقيلة لا ينبغي أن تكون بالقرب من المدارس (صرحت منظمة الصحة العالمية على وجه التحديد أنه لا ينبغي أن تقع المصانع في نطاق ميلين عن المدارس)، ومع ذلك أقيم المصنع.
علاوة على ذلك، قال مربو الخيول إنهم لم يعودوا قادرين على تربية سلالات أصيلة بسبب تغير نوعية الهواء، فيما اكد مربو النحل أنهم ليس بمقدورهم بعد الان كسب العيش. والمريب ان كل ذلك حصل في مجتمع فقير فيه نسبة عالية من السكان السود، ولم تُعقد جلسات استماع عامة حتى قبل افتتاح المصنع.
بالمقابل، فإن مدينة نيويورك (الحالة الثانية) ذات الصيت الشائع، لجأت الى القوة للتعامل مع المشردين فيها. ففي هذه المدينة التي ينفق فيها أكثر من ملياري دولار سنويًا على التشرد ، ينام ما يقرب من 47000 شخص ـ أكثر من 14500 منهم من الأطفال ـ في ملاجئ المشردين كل ليلة. وبدلاً من معالجة بلاء الفقر والتشرد المصاحب له، اختار رئيس بلديتها آدامز تدمير أكثر من 200 مخيم للمشردين ، بينما خفض بشكل رمزي ميزانية التشرد في المدينة بمقدار الخمس.
غير ان ذلك لم يمر بسلام، إذ اندلعت الاحتجاجات في المدينة، فيما ندد غالبية أعضاء مجلس مدينة نيويورك بهدم اماكن المشردين، وأشاروا في رسالة معارضة إلى أن "هذه المداهمات لن تنتهي بالتشرد بل ستعرض الناس للمزيد من الأذى".
في المحصلة، في أمريكا القرن الواحد والعشرين، الاولوية للحروب والصناعات العسكرية ومقاولي الحروب على حساب الفقراء الذين تتم معاقبتهم على فقرهم، لتكون ملعبًا للأثرياء وتجار الأسلحة ولرموز العنصرية.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024