آراء وتحليلات
مناورات قبرص ... ماذا وراء أفق العدو؟
علي عبادي
أحاط العدو الفصل الأخير من مناوراته في جزيرة قبرص التي تبعد عن شواطئ لبنان زهاء 200 كلم بسيل من الأخبار والتقارير المصورة عرض فيها عضلاته العسكرية التي اعتاد أن يُظهّرها في المناورات، بينما انصبّ جهده في السنوات الماضية على غارات جوية، بعضها من بعيد، وعمليات اغتيال وتفجير مستفيداً من توفر غطاء أمني له في عدد من البلدان.
تناولت تقارير إعلام العدو سيناريوهات عدة لهذه التدريبات، مما يعني انها ذات أهداف إعلامية إضافة الى أهدافها العسكرية. فمن قول إنها تحاكي عملية اقتحام واسعة لعمق الاراضي اللبنانية، الى القيام بهجوم على مجمع حساس لحزب الله، إلى تدريب على هجوم جوي على اهداف بعيدة المدى (في ايران) شاركت فيه مئة طائرة وغواصتان وطائرتا تزويد بالوقود في الجو.
ابتزاز وتهوين
وصفت مصادر العدو تدريبات "ما وراء الأفق" ضمن مناورات عربات النار" بأنها تدريبات لم يقم بمثلها جيش الاحتلال منذ عشرات السنين. وربما يكون ذلك استعداداً لشيء ما يفكُّ به جيش الاحتلال عقدته في استعادة الردع العسكري الذي افتقده منذ مدة طويلة، وهو أمر ينبغي أخذه في الحسبان دائماً. وقد يكون أيضاً لزيادة الضغوط على حلفائه والهيئات الدولية للقول لهم: "أمسكوني قبل أن ...."، وهو ما يستدرج زيارات ذات غايات ابتزازية لمسؤولين أميركيين على رأسهم الرئيس جو بايدن، ولمدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي قام بزيارة الى الكيان المؤقت لإطلاع المسؤولين الصهاينة على معطيات الوكالة حول برنامج ايران النووي متناسياً أن "اسرائيل" لديها برنامج نووي عسكري لا يخضع للرقابة الدولية بعكس برنامج ايران.
في كل الحالات، يترجَم موسم الجنون الصهيوني بتصريحات يومية يتناوب عليها كبار مسؤولي العدو الذين يهددون، كما فعل بنيامين نتنياهو من قبلُ مرات كثيرة، بشنّ هجوم على قدرات ايران النووية ذات الاستخدام السلمي، أو على لبنان لضرب ركيزة المقاومة فيه التي عجزت كل الحِيل عن النيل منها الى اليوم، أو على قطاع غزة لتصفية حساب أخفق فيه جيش الاحتلال في أربع جولات متتالية (2008، 2012، 2014، 2021).
وبينما يعدّ العدو للألف قبل المباشرة بحرب جديدة استعاض عنها عجزاً منذ سنوات بالغارات وعمليات التخريب والاغتيال التي لم تحقق ما يصبو إليه من إجهاض قدرات محور المقاومة، فإن أخبار هذه المناورات لم تشدّ انتباه عيون كثيرة في لبنان تبدو مسلطة على مواجهة المقاومة تحت شعارات خادعة ومضلِلة. حتى الاستدعاء الذي تم للسفير القبرصي في بيروت الى وزارة الخارجية لاستيضاحه عن مرامي هذه المناورات بقي في إطار خجول. وما يلفت أن الخبر اللبناني الرسمي بقي في اطار صيغة "استقبل وزير الخارجية سفير قبرص للاستيضاح حول التمارين العسكرية المشتركة مع إسرائيل"، معترضاً على ما ورد في الإعلام الاسرائيلي من انها موجهة ضد لبنان. وطبعاً، نفى السفير هذا الأمر جملة وتفصيلا، مشيراً الى ان هدف هذه التمارين هو تدريب حرس الحدود للدفاع عن الجزيرة القبرصية! لكن ماذا عن مشاركة الطائرات الحربية والغواصتين وما إلى ذلك؟!
لماذا قبرص؟
لا يغيب عن البال أن قبرص شاركت جيشَ الاحتلال الصهيوني في مناورات "أوريون 22" التي جرت في نيسان/ أبريل الماضي في اليونان بمشاركة قوات أميركية وفرنسية وبلغارية. كما تعدّ قبرص تقليدياً مركز تجسس ونشاط عملاني للاستخبارات الصهيونية. ولهذا، فإن اختيارها لإجراء مناورات اسرائيلية فسرته صحيفة "اسرائيل اليوم" اليمينية بوجود تشابه بين قبرص ولبنان في الطبيعة الجغرافية.
لكن ما قد يكون أخطر من مجرد التدريب هو محاولة الاستفادة من ميزات موقع قبرص وبلدان أخرى اقليمية (في الخليج أو شمالي العراق وصولاً الى اليونان) قاعدةً لأي عمل عسكري في المستقبل، سواء ابتداءً أو خلال تعرض قواعد العدو الجوية لضربات في الأيام الأولى لحرب محتملة. وباتت فرضية تعطل عمل سلاح الجو احتمالية لا يمكن التغاضي عنها بالنسبة للمخططين العسكريين الصهاينة بسبب تقدم قدرات محور المقاومة سواء بالنسبة الى الصواريخ الباليستية أو الجوّالة التي تحلق على ارتفاعات منخفضة أو الطائرات المسيرة. وما قد يجري على القواعد الجوية، يسري أيضاً على القواعد البحرية للدول المشار إليها والتي قد تستخدمها بحرية العدو للغاية ذاتها.
تلافي "التدمير الذاتي"
وعلى رغم تفاقم الإحساس بالخطر الوجودي لدى كبار القادة والمحللين في الكيان المؤقت، فإن الحديث بصوت عالٍ عن هذا الخطر لا يحجب المأزق الداخلي الذي يؤدي الى إطلاق تحذيرات من حرب أهلية بين فسيفساء المجتمع الصهيوني المركَّب. وآخر من أدلى بدلوه في هذا السياق رئيس وزراء العدو نفتالي بينيت ورئيس الوزراء الأسبق ايهود باراك ورئيس الموساد الأسبق تامير باردو الذي أعرب عن خشيته من ان "اسرائيل اختارت تفعيل آلية التدمير الذاتي" بسبب الكراهية المتبادلة بين الاحزاب والشخصيات السياسية والدينية.
وقد يبدو التصويب على الخارج جزءاً من مسعى غير موفَّق لشدّ العصب ومنع تحلُّل الكيان ذاتياً. غير ان ذلك لا يمنع ملاحظة كثافة في الغارات على سوريا وإطلاق التهديدات مؤخراً باتجاه لبنان وعمليات تخريب في ايران للنيل من دورها في دعم المقاومة في لبنان وفلسطين.
من دون شك، هناك تداخل ما بين مأزق العدو الداخلي وارتفاع وتيرة صخبه الخارجي، كما توجد علاقة بين إحساس العدو بتراجع ترتيبه في السياسة الأميركية وسعيه لاستجلاب اهتمام أميركي إضافي من باب التهويل والتهديد بشن حرب على ايران. لكن ذلك كله لا يلغي ضرورة الانتباه الى التغيرات في المجتمع الصهيوني والتي قد تدفع الى مغامرة ما في لحظة تفكك الغالبية الحكومية على قاعدة أن المسؤولية السياسية سوف تضيع في فترة الضباب الحكومي الراهنة.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024