معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

موسكو تكسب منازلة "السيل الشمالي 1" وتلوي ذراع أوروبا
14/07/2022

موسكو تكسب منازلة "السيل الشمالي 1" وتلوي ذراع أوروبا

د. علي دربج - باحث ومحاضر جامعي

لم تمر خطوة السلطات الكندية الشهر الفائت ــ المدفوعة أمريكيًا وأطلسيًا ــ بمصادرة توربينات خاصة لعمل خط أنابيب الغاز الطبيعي الرئيسي الذي يربط بين روسيا وأوروبا "نورد ستريم 1" المعروف بـ "السيل الشمالي-1" مرور الكرام (وكانت تقوم باصلاحه شركة "سيمنز" ـ كندا).

هذه المرة اختار الكرملين وقف لعبة توزيع الادوار بما يتعلق بالعقوبات على روسيا، وليّ ذراع أوروبا التي تشكل رأس الحربة في هذه اللعبة، إذ جاء الردّ الروسي سريعًا، عبر خفض إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوروبا.

ما هي نتائج الرّد الروسي على أوروبا؟

عمليًا، كان صدى الإجراء الروسي مدوٍّيا في أوروبا نظرًا لتداعياته وأضراره الكبيرة على الاقتصاديات الاوروبية التي دفعها الخوف والرعب الى التحرك فورًا نحو الولايات المتحدة ــ المحرض الرئيسي على الخطوة الكندية ــ  واجراء اتصالات معها أفضت في النهاية الى الرضوخ للكرملين، وبالتالي تراجع كندا عن قرصنتها وبزمن قياسي والسماح بتسليم التوربينات الى ألمانيا.

الى هنا قد تبدو الأمور قد انتهت. لكن مهلًا، في الواقع للقضية تتمة؛ فتصريح المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف ان "عودة التوربينات، تسمح لشركة "غازبروم" بتعزيز تدفقات الغاز عبر نورد ستريم 1"، لم يبدد قلق الأوروبيين الذين يحبسون أنفاسهم حاليًا ويتخوفون من أن تطول عملية إغلاق خط الأنابيب والتي تجري سنويا من أجل القيام بالصيانة من 11 تموز/يوليو الجاري إلى 21 منه.

ما هو حجم إمدادات الغاز الروسية الحالية الى اوروبا؟

عموًما تم تخفيض شحنات "غازبروم" من الغاز الطبيعي إلى أوروبا بشكل كبير منذ بداية العملية العسكرية في أوكرانيا (على الرغم من زيادة الصادرات الأولية الصغيرة حتى منتصف آذار/ مارس 2022)، حيث تبلغ التدفقات الآن أدنى مستويات لها على الإطلاق.

وبحسب متوسط البيانات الأسبوعية لشركات الطاقة العالمية، فإن التدفقات الحالية من روسيا إلى الاتحاد الأوروبي تساوي حوالي نصف ما تم إرساله قبل ستة أشهر، وثلث ما تم شحنه فقط في حزيران/ يونيو 2021، وهذا يعود الى عاملين رئيسيين مباشرين: الأول، خرق "شركة غازبروم" من جانب واحد لعقود التوريد مع العديد من العملاء الأوروبيين، انطلاقا من حق المعاملة بالمثل والتي يجيزها القانون الدولي (ردا على خروقات اوروبية لاتفاقيات مع موسكو)، ثانيًا، قرارات الكرملين للحد من استخدام ممرات خطوط أنابيب الغاز الحالية.

وتبعًا لذلك، وبالتدقيق بعمل خطوط الأنابيب الأربعة الرئيسية التي تنقل الغاز الروسي الى أوروبا نجد أن موسكو أبقت على عمل خط "ترك ستريم" فقط (عبر البحر الأسود) بشكل طبيعي، في حين لا يتم استخدام خط أنابيب يامال - أوروبا عبر بولندا، حيث فرضت موسكو عقوبات على مالك القسم البولندي (EuRoPolGaz)، فيما لا تزال تدفقات الغاز عبر أوكرانيا محدودة.

بالمقابل ومنذ بداية حزيران/ يونيو 2022، يعمل "السيل الشمالي ـ 1" بسعة 40 في المائة بسبب مشكلة التوربينات التي تم الاستيلاء عليها، والتي تُرجمت مباشرة بخفض الإمدادات في النمسا وجمهورية التشيك وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وسلوفاكيا.
 
كيف كانت تداعيات وقف امدادات الغاز عن اوروبا؟

ترك الردّ الروسي على المغامرة الكندية ــ الاطلسية، أثرًا هائلًا على أمن الغاز الأوروبي، خصوصًا على معدل تعبئة تخزين الغاز، مما يهدد دول الاتحاد الأوروبي باحتمال دخول فصل الشتاء دون احتياطيات كافية.

الإشارات الأكثر إثارة للقلق، أتت من الجانب الألماني. وفقًا لتحليل منظم الطاقة الألماني إذا لم يرتفع تدفق الغاز عبر "خط السيل الشمالي ـ 1" (أو توقف تمامًا بعد الصيانة)، فمن المرجح أن ينفد الغاز في ألمانيا خلال الشتاء القادم. ولهذه الغاية، رفع نائب المستشار الألماني ووزير الشؤون الاقتصادية روبرت هابيك الصوت عاليا في بلاده محذرا من أن "هذا من شأنه أن يتسبب في انهيار بعض القطاعات الصناعية في البلاد وربما يؤدي إلى أزمة اقتصادية واسعة النطاق.

الأكثر أهمية استنادًا لهابيك أنه سيكون للخطوة الروسية، تأثير مدمر على الاتحاد الأوروبي ككل بسبب نقص الغاز في بلدان معينة وبسبب ارتباط الاقتصادات الأوروبية بالاقتصاد الألماني بشكل وثيق.

هل يتوقع الأوروبيون قطع روسيا لامدادات الغاز عنهم؟

في الوقت الراهن، يجمع الخبراء والساسة الأوروبيون على أنه من المستحيل التكهن بما إذا كانت "غازبروم" ستزيد إمداداتها من الغاز إلى أوروبا ومتى. فمن جهة يرى الأوروبيون أنه يجب على شركة الطاقة مواصة توريد الغاز، بعد اكتمال صيانة خط "السيل الشمالي ـ 1"، لا سيما بعد تسليم ألمانيا التوربينات المتنازع عليها إلى روسيا. ومن جهة اخرى، يعتبرون أن هناك حاجة إلى ضمانات بأن روسيا لن تلجأ الى أي قضية فنية أو قانونية أخرى من شأنها أن تمنع زيادة تدفق الغاز إلى بقية أوروبا.

وعليه، حاليًا من الناحية النظرية، يبدو أن الكرملين لديه ثلاثة أسباب مركزية لزيادة تصعيد أزمة الطاقة في أوروبا، حيث إن المكاسب الافتراضية الإجمالية لموسكو قد تتجاوز التكاليف وضغوطات العقوبات بسهولة.

أولا، إن استمرار أسعار الغاز المرتفعة، يدرّ على "غازبروم" إيرادات مالية أكثر من المتوقع، على الرغم من أن الشركة خفضت بشكل حاد حجم الغاز المباع. في الواقع إن شركة "غازبروم" لا تزال تكسب أموالا أكثر مما جمعته في السنوات السابقة، وعليه فإن الفائض في مداخيلها المالية، سيسهم حتما وبشكل فعال في ميزانية الحكومة الروسية، وهذا سيُبطل مفعول العقوبات على موسكو.

ثانيًا، بالنسبة للكرملين، إن توليد أزمة غاز وتسعيرها في أوروبا، يعد استراتيجية روسية رئيسية وسلاحًا فعالًا ضد الغرب، ردًا على عقوباته الخانقة عليها، نظرًا لوضع سوق الطاقة (الاختلال العالمي في العرض والطلب على الغاز الطبيعي المسال) وعدم سهولة بناء بنية تحتية لإعادة التحويل إلى غاز ونقله داخل الاتحاد الأوروبي، في الأمد القريب. لذا، فالغاز الطبيعي الروسي الآن، يعتبر "شرًّا ضروريًا" للعديد من البلدان الأوروبية بما في ذلك ألمانيا والنمسا.

إضافة الى ذلك، فإن الاضطرابات المطولة في عمليات التسليم من شركة غازبروم، قد تؤدي بالفعل إلى ظهور أزمة اقتصادية واسعة النطاق هذا الشتاء، وهذا بدوره قد يؤثر بشكل كبير على الاستقرار السياسي والوحدة داخل الكتلة الاوروبية المكونة من 27 بلدا.
 
ثالثًا والأهم، أن إيقاف تشغيل "السيل الشمالي ـ 1" لأسباب فنية ـ حقيقية أو متعمّدة ـ قد يستخدمها الروس للضغط من أجل إعادة تشغيل مشروع "السيل الشمالي ـ 2"، خصوصًا وأن الانتهاء من بناء خط الأنابيب هذا تقنيًا، قد تم قبل بدء الازمة الروسية ــ الاطلسية، ويمكن استخدامه افتراضيًا لشحن كميات متزايدة من الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا.

لهذا، إذا استمرت "غازبروم" في الحد من الإمدادات عبر "السيل الشمالي ـ 1"، فمن المحتمل أن تدعو إلى إعادة توجيه بعض التدفقات عبر "السيل الشمالي ـ 2". وبطبيعة الحال، سيستخدم الكرملين هذا أيضا لخلق انقسامات داخل الاتحاد الأوروبي وإضعاف الوحدة السياسية للغرب.
 
في المحصلة، لا أحد يعرف ما هي الاستراتيجية التي ستختارها روسيا فيما يتعلق بإمداد أوروبا بالغاز الطبيعي. لكن يبدو أن دول الاتحاد الأوروبي يجب ألا تشعر بالأمان حتى إذا استؤنفت تدفقات "السيل الشمالي ـ 2" إلى المستويات السابقة بعد الصيانة أو زيادة الإمدادات في الأسابيع المقبلة، لا سيما وأن روسيا قد تقوم مجددًا بتعطيل الاستعدادات الأوروبية لفصل الشتاء في حال شعرت بالخطر جراء العقوبات، لا سيما ان عملية إعادة بناء مخزونات الغاز في الاتحاد الأوروبي تحتاج من ثلاثة إلى أربعة أشهر لتكتمل.

 

الغاز

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

خبر عاجل