آراء وتحليلات
زيارة بيلوسي لتايوان: مخطط أميركي لتأزيم الوضع في الصين
عبير بسّام
تعكس زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى تايوان نية أميركية مبيتة لرفع مستوى التهديدات للتدخل المباشر في شؤون الصين الداخلية، حيث ازدادت وتيرة التهديدات مع ابتداء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ووصلت اليوم الى حد تحذير الرئيس الصيني شي جين بينع، الرئيس الأميركي جو بايدن من اللعب بالنار عبر اتصال هاتفي في 28 تموز/ يوليو. ولم يكن تأكيد الصحافة الغربية والمكتب الإعلامي ليبلوسي على أن الزيارة، التي ابتدأت في 31 تموز/ يوليو، هي فقط لأربع دول مجاورة للصين هي سنغافورة واليابان وكوريا الجنوبية وماليزيا، سوى مناورة سياسية جديدة، لتعدل بيلوسي خط سير طيرانها الذي كان متجهاً نحو اندونيسيا، وفجأة باتت في تايوان.
مرّ حتى اليوم حوالي العشرة أيام على هذه الزيارة الاستفزازية، والنتائج تتداعى كل يوم ولم تتضح معالمها بعد بشكل كامل، غير أنها تسببت باستنفار عسكري صيني كامل قبالة السواحل الشرقية لجزيرة تايوان. استنفار استخدمت فيه الذخيرة الحية لأول مرة. ولكن هل معنى هذا أن أيًّا من الصين أو تايوان ستذهب إلى حرب "أهلية" بالمفهوم الصيني، أو حرب "وجودية ديمقراطية" بالمفهوم التايواني أو الأميركي؟
وفي كل الأحوال، من الأفضل مقاربة الأمر من خلال القراءة بحسب محددات علم السياسة.
في علم السياسة لا يوجد شيء اسمه التنبؤ بما يحدث في العلاقات ما بين الدول، ولكن هناك مقاربات وقراءات من خلال تتبع الأحداث عبر سنين ماضية وكيف كان تصرف الدول خلال مراحل مختلفة وتجاوبها مع التهديدات. وهذا ما يعيدنا إلى أيام الحرب الباردة التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية والتي استمرت حتى سقوط الاتحاد السوفياتي.
من الواضح أننا نسير في ركب الحرب الباردة الثانية. وأهم القضايا التي تقرأ منها ردات الفعل العالمية، وتعد ركيزة في قراءة المواقف الأميركية تحضر قضية صواريخ كوبا، في عهد الرئيس جون كنيدي في العام 1962. عندما نشر الاتحاد السوفياتي صواريخ ذات رؤوس نووية في كوبا، بعد إعلان الثورة الشيوعية فيها استلام الحكم بقيادة فيدل كاسترو، وبعد محاولة أميركية فاشلة في العام 1961، عرفت بعملية "خليج الخنازير" وكانت تهدف لقلب النظام في كوبا وخطف الرئيس كاسترو وسوقه سجيناً إلى الولايات المتحدة.
ارتفعت حدة الأزمة يومها حتى كاد كل من نيكيتا خروتشوف، رئيس الاتحاد السوفياتي يومها، وكنيدي يضغطان على زر إطلاق الصواريخ النووية.
في الشكل العام كانت نتيجة الأزمة انسحاب الأساطيل السوفياتية وسحب الصواريخ من كوبا، وبالمقابل أمريكا سحبت صواريخها النووية المتوسطة المدى من تركيا مقابل سحب الصواريخ السوفييتية النووية المتوسطة المدى من كوبا. ولذلك عندما تأزم الوضع ما بين أمريكا وروسيا حول نشر صواريخ الباتريوت في أوكرانيا، وانضمام الأخيرة إلى الحلف الأطلسي، كان من المتوقع ألا تدخل أوروبا أو الولايات المتحدة في صراع مباشر مع روسيا قد ينتهي بحرب نووية.
إعادة القراءة السياسية للأزمة ما بين روسيا وأمريكا في أوكرانيا،من الممكن تكرارها في قضية الصين وأميركا حول تايوان وإبقاء العين على روسيا.
هناك محاولات أميركية من أجل التصعيد مع الصين، في محاولة لإجبارها على الوقوف معها ضد عدوها الأول، ألا وهو روسيا. وهذا معناه اعتراف أميركي أن روسيا اليوم قد نجحت متفردة بنزع فتيل أي مهددات لأمنها القومي بالحرب على أوكرانيا، والتي يتضح كل يوم ضخامة مدها بالسلاح الأميركي والأوروبي. وحتى اليوم نجحت روسيا بفرض اليد العليا. وهذا ما سيدفع أميركا أكثر لمحاولة الضغط على الصين من أجل تراجعها عن موقفها بدعم روسيا في حرب أميركا في أوكرانيا.
وبإعادة القراءة هناك أمران أساسيان يجب أخذهما في الحسبان حين قراءة ما ستؤول إليه الأزمة في تايوان. الأمر الأول تحدثنا فيه، وهو قضية صواريخ كوبا وكيف انتهى الحل فيها، والأمر الثاني، ما ترتجيه أميركا بعد زيارات بيلوسي "الديمقراطية".
لبيلوسي تاريخ في زياراتها لدعم الديمقراطية، إحداها كانت لتايوان في العام 1991، ونتج عنها اضطرابات دخل فيها انفصاليو تايوان ضد الصين.
الزيارة الثانية كانت لسوريا "للاطلاع" في العام 2007. وجاء في الإعلام أن المحادثات دارت حول دعم الرئيس السوري بشار الأسد للمقاومة في العراق، وما آلت إليه الأوضاع نتيجة الغزو الأميركي للمنطقة. ولكن لا يخطئن أحد أهداف زيارة بيلوسي إلى سوريا والمنطقة والتي بانت نتائجها في العام 2011، من نشر للديمقراطية في العالم العربي وتحديداً في سوريا. وجاءت بيلوسي إلى سوريا دعماً لحزبها الذي كان يفترض إيجاد حل للوجود الأميركي في العراق، في وقت ارتفعت فيه الأصوات المنددة بالاحتلال الأميركي للعراق في داخل أميركا.
زيارة بيلوسي إلى سوريا، وكانت يومها رئيسة للكونغرس الأميركي أيضاً، جاءت مع معارضة البيت الأبيض لها، تماماً كما صرح البيت الأبيض اليوم، معارضة جولتها في شرق آسيا.
ما أملته بيلوسي في سوريا، هو نفسه ما تأمل الوصول إليه من الطلبات الأميركية في تايوان، مهما تكن صفة المطالب: ديمقراطيا او جمهوريا أو صهيونيا. ورحلة بيلوسي إلى تايوان هدفها أولاً إظهار أميركا قوية، وثانياً، دعم بايدن في الانتخابات النصفية في تشرين الثاني/ نوفمبر في هذا العام؛ وثالثاً، محاولة تقويض قوة الصين عبر ضرب المصالح المشتركة ما بين الصين وتايوان وخاصة لصالح الصناعات التقنية الدقيقة، والتي تسعى أميركا للسيطرة على سيرها، إذ إن رجال الأعمال التايوانيين افتتحوا مصانع الصناعات التقنية الدقيقة في داخل البر الصيني.
إذًا، تاريخ زيارات بيلوسي، والتي يجب التدقيق فيها أكثر، حول العالم تنتهي باضطرابات تخدم الديمقراطية الأميركية بشكل أو بآخر. وبالتالي يعيدنا الأمر إلى العام 1972، عندما زار الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون الصين. توجه نيكسون لزريارة الصين في ذلك العام والتقى بالزعيم ماو تسي تونغ، وأقامت يومها الولايات المتحدة علاقات كاملة مع الصين.
الخطوة الأميركية جاءت نتيجة سبيبن: الأول يتعلق بقبول عضوية الصين بقرار من الجمعية العامة في الأمم المتحدة في العام 1971 واحتلالها مكاناً في مجلس الأمن، بعد أن كانت تايوان تحتله كجزيرة صغيرة، والتي تعد جزءاً من الأراضي الصينية. وكما جاء في قرار الجمعية العامة أنّ حكومة جمهورية الصين الشعبية هي الحكومة الشرعية الوحيدة التي تمثّل الصين بأكملها وتمّ تأكيد ذلك في القرار رقم 2758 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، والسبب الثاني، له علاقة بالحرب الأميركية في فيتنام، اذ طلب نيكسون وقف دعم المقاومين ضد الاحتلال الأميركي، وهذا ما رفضته الصين وتم تحرير فيتنام في العام 1973. وأما هدف الزيارة الحقيقي فقد كان كسب الصين كحليف أو على الأقل استمالتها بعيداً عن الاتحاد السوفيتي، لأن الولايات المتحدة يومها كانت تحاول فرض قيود من أجل تحجيم الترسانة النووية السوفياتية.
وضعت زيارة نيكسون الصين على خط الانفتاح، والبعض يصفه بأنه إيقاظ للتنين الصيني. وبناء على العلاقة السابقة التي بنيت ما بين الصين ونيكسون، كانت تتوقع الولايات المتحدة اتخاذ الصين موقفاً مناوئاً، أو على الأقل محايداً بشأن الحرب الأميركية الروسية في أوكرانيا، وأن تقوم بمقاطعة روسيا أو الضغط عليها.
اليوم الصين تعلم أن للولايات المتحدة نوايا عدائية تجاهها منذ أن قام الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بشن حملة عليها، واوقف العمل بالاتفاقية التجارية معها، وفرض الضرائب على البضائع الصينية، والتي كانت ردة فعل أثقلت كاهل المواطن الأميركي.
لم يكتف ترامب بما فعله، بل قام بتزويد تايوان بالسلاح، ومساعدتها على تجديد وإعادة بناء الأسلحة القديمة، وتجاوزت اتفاقيات السلاح ما بين تايوان وأميركا الـ 250 مليون دولار. وهناك تقارير نشرت حول حجم هذه التجهيزات، فالتصعيد ضد الصين قائم على قدم وساق من قبل المحافظين والجمهوريين في أمريكا، وأما التصعيد ضد روسيا فيقوده الديمقراطيون. فالأمر كله إعادة توزيع أوراق الهجوم من أجل تقويض نهوض عملاقين في الشرق. إذًا، التحضيرات من أجل إشعال حرب في داخل جزيرة تايوان قائمة منذ سنوات، تماماً كما كان يحدث في أوكرانيا، والصين تراقب عن كثب كما كانت روسيا تراقب. وكما انتظرت روسيا اللحظة الدولية المناسبة لوقف التدخل الغربي في اوكرانيا، فإن الصين تنتظر اللحظة الدولية المناسبة لوضع حد نهائي لتدخلات الولايات المتحدة في تايوان.
محللو الاستخبارات الأميركية أنفسهم يعترفون بأن "الصين قد تخشى أن التزام الولايات المتحدة بالمساعدة في تحويل الجزيرة إلى "نيص" - مسلح بأسلحة من النوع المقدم لأوكرانيا لصد الروس - قد يجعل السيد شي وجيشه يعتقدون أنهم بحاجة إلى التحرك في الأشهر الـ 18 المقبلة، خشية أن يفقدوا الميزة العسكرية".
وفي الأسابيع التي سبقت الزيارة: "حذر مسؤولو المخابرات الأمريكية من أن الصين ربما تستعد للعمل ضد الجزيرة عاجلاً وليس آجلاً. يمكن أن تنطوي الخطوة على حادث في المضيق أو محاولة للضغط على الجزيرة وعزلها ، دون غزو كامل".
كلها تحليلات مسربة ولكن الأمر لا يختلف عن تسريب امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، أو انتشار الشيوعية في أمريكا الجنوبية، أو تقارير عن الاعتقالات والاغتيالات السياسية في روسيا، أو أفلام الخوذ البيضاء في إدلب/ سوريا، والتي من خلالها جميعاً تبدأ الولايات المتحدة بالتدخل العسكري أو بتنفيذ العمليات الاستخباراتية أو حروب الوكالة كما في سوريا وروسيا، واليوم في الصين.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024