آراء وتحليلات
كيف يمكن مكافحة التضخم المالي وتعزيز النمو في ظل دوامة الازمة اللبنانية
د.عدنان يعقوب(*)
يتردد كل يوم في الإعلام تعبير"تضخم" فما الذي يعنيه هذا المصطلح؟
التضخم هو الزيادة المستمرة لمستوى الأسعار في اقتصاد معين، والمقياس الذي يتم استخدامه في قياس التضخم هو مؤشر أسعار المستهلكين الذي يقيس أسعار مجموعة من السلع (سلة ممثلة من السلع والخدمات التي تشتريها الأسرة العادية).
انطلاقا من هذا يؤثِّر صعود الدولار على التجارة الداخلية في لبنان في المدى القصير، فالدولار الأمريكي أصبح للاسف يهيمن على أغلب المعاملات التجارية وتستخدمه أغلب الشركات اللبنانية في التسعير وتسوية المعاملات.
ولننظر على سبيل المثال إلى المواد الاولية الأساسية والتي تسعّر بالدولار الامريكي، فمع ارتفاع الدولار وفرض الرسم الجمركي المقترح سوف يؤديان الى زيادة كلفة الاستيراد مما ينعكس على رفع اسعار السلع المستوردة التي تشكل اكثر من 75% من الاستهلاك المحلي مما يغرقنا أكثر في دوامة التضخم الجامح.
في المحصلة سيكون لصعود الدولار آثار كبيرة ومنها زيادة معدلات التضخم، لذك نحتاج إلى اتخاذ قرارات سياسات صائبة من شأنها زيادة النمو الاقتصادي المستدام وتقليص التضخم واعادة توزيع عادلة للمداخيل والقضاء على الفقر والبطالة، ولتحقيق ذلك كان بد من عرض 4 خطوات أساسية لمكافحة التضخم المالي وتعزيز النمو ودعم الفئات الفقيرة في ظل دوامة الازمة السياسية والاقتصادية المفتعلة في لبنان وهي تتمحور حول الاتي:
أولاً: إعادة النظر في طريقة الإنفاق العام في الموازنات العامة
لبنان كغيره من البلدان تثقله ديون عامة ضخمة، ويعاني من ضيق المجال المتاح للإنفاق في إطار المالية العامة، لكن لديه احتياجات للإنفاق مثل توسيع نطاق الأنظمة الحديثة للحماية الاجتماعية وتحسين مستوى الاجور، مع ما يتطلبه ذلك من ضرورة الارتقاء بجودة النفقات العامة الجارية وإعادة توجيهها (في ظل هيمنة أجور العاملين في القطاع العام في الموازنة، وأنظمة الدعم غير الموجَّهة لفئات بعينها، وأعباء خدمة الديون على الإنفاق العام مع عدم اقرار الموازنات السابقة)، كل ذلك يدفع الى اعادة النظر في تحسين جودة إلانفاق عن طريق ما يلي:
ـ جعل الإنفاق العام عبر الموازنات أكثر تركيزاً على تحسين الانتاجية والأداء عند الموظفين والعمال .
ـ تخفيض الدعم غير المجدي والغير مُوجَّه نحو الفئات الفقيرة.
ـ إصلاح المؤسسات المملوكة للدولة بما فيها قطاع الكهرباء والاتصالات والبنية التحتية.
كل ذلك في ظل تنظيم الإنفاق العام، وتحليل أثر الضرائب المباشرة والغير مباشرة والرسوم الجمركية والإنفاق الحكومي على الدخل الحقيقي، والمشورة بشأن تمويل البنية التحتية واعادة إدارة الديون.
ثانياً: اعتماد الشفافية في ما خص ديون الدولة اللبنانية
لا يزال عدم وضوح الارقام والإبلاغ عن الديون في سياق قرارات التوقف وعدم القدرة على دفع الديون في أعقاب الأزمة الاقتصادية هو السائد. اذ لم يتم التصريح في لبنان منذ التسعينات عن الديون بشكل واضح وكافٍ وشفاف، وكانت تصريحات المسؤولين عن النمو المستقبلي مبالغًا فيه ونتيجته التغاضي عن إشارات الإنذار المبكر لضائقة الديون، في ظل تخطيط السياسة المالية والذي اعتمد على افتراضات خاطئة حول الديناميات المستقبلية لنسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي التي تخطت 174% في بداية عام 2019 .
من هنا كان يتوجب على الدولة اللبنانية اعتماد الشفافية في الاعلان عن الديون، في ظل توخي الحذر من الالتزامات الطارئة التي يجرى اليوم الحديث عنها، مثل انشاء صندوق سيادي يقتطع منه جزء من ايرادات القطاع العام وتحويله الى المصارف بدل الخسائر الناجمة عن توظيفاتها في سندات الخزينة، دون ان ننسى انتهاج السياسة الريعية والهدر الكبير في تمويل الكهرباء منذ التسعينيات في الغالب، والتي لم يتم الإفصاح عن تفاصيلها وابرمت في سياق ضعف استرداد التكاليف، واصبحت التزامات على الحكومة المتعاقبة.
ثالثاً: الابتعاد عن "ھيمنة سياسة المالية العامة" والاعتماد المفرط على المصرف المركزي
لبنان هو أصدق مثال على هيمنة المالية العامة حيث تشير الوقائع الى الاستمرار في سياسة تمويل عجز الموازنة العامة والديون الحكومية بزيادة عرض النقود بمعنى تمويلها من خلال طبع النقود من قبل المصرف المركزي. وفي الظروف العادية ورغم التوقف عن السداد، تبقى الديون العامة التزاماتٍ يُمكن تحملها وتحت السيطرة من خلال مزيج من النمو الاقتصادي وفرض الضرائب.
ولا يبدو هذا وضعاً جيداً لان الصدمات والسياسات السيئة دفعت الديون إلى مستويات لا يمكن الاستمرار في تحملها، والايفاء بها وادت إلى الاعتماد على البنك المركزي الذي ليس بمقدوره الاستمرار في الدعم بسبب استنفاذ احتياطاته من النقد الأجنبي، وإدارة أنظمة العملة والقطاع المصرفي، ولا يمكنه الحفاظ على استقرار الأسعار عبر التحكم في التضخم (إذا أصبحت الملاذ الأخير لإقراض الحكومات وتلاشي احتياطيات النقد الأجنبي بسرعة).
ولتفادي هذا الوضع، لا بد من لجوء البنك المركزي إلى تقنين النقد الأجنبي، وهي ممارسة ذات تأثيرٌ تشويهي بدرجة كبيرة لا تفعل سوى تأجيل ما هو حتمي، مثلما حدث حينما تخلفنا عن سداد ديوننا الخارجية للمرة الأولى.
من هنا المطلوب من الحكومة وعبر وزارة المالية (الممثل للسياسة المالية) بالتعاون مع البنك المركزي (الممثل للسياسة النقدية) التحرك على وجه السرعة واجراء إصلاحات هيكلية نظراً لسوء اوضاع المالية العامة، ولان أدوات المصرف المركزي لم تعد كافية ومجدية لوحدها في ظل التأخير في لجم التدهور في الوقت الراهن.
رابعاً: حماية الفئات اللبنانية الاشد فقراً
دفع ارتفاع معدلات التضخم في لبنان الأسر نحو ما دون خط الفقر، لأن الإنفاق على الغذاء اخذ جزءاً كبيراً من ميزانيات تلك الأسر، حيث ارتفعت نسبة الانفاق على المواد الغذائية من الموازنة العامة بشكل كبير، من هنا ضرورة اتخاذه تدابير لإعادة تخصيص النفقات، والعمل على تنفيذ برامج لإصلاح الدعم يتم فيها اتخاذ آليات تعويض موجَّهة لحماية الفقراء من غلاء أسعار الغذاء والطاقة.
وعلى الرغم من كل الأزمات التي واجهها لبنان التي ادت الى استفحال الفساد، والذي انعكس بشكل سلبي على التنمية الاقتصادية، يستمر الحديث عن إنفاق إضافي ( في السنة المالية 2022 و 2023) لزيادة تقديمات ومنح القطاع العام وكذلك توسيع برامج الدعم الاجتماعي، والتي تحتاج إلى إعادة إجراء تحليلات لضمان الوصول إلى فئات السكان المستهدفة وإعطائهم القدر الكافي من الدعم.
في النتيجة
بعد كل ما تقدم بات من الضروري العمل على انتهاج سياسات جيدة يمكن أن تساعد على تحسين الأوضاع الاقتصادية (وعدم الاكتقاء فقط باستخدام برامج الدعم الشامل واستخدام أنظمة الحماية الاجتماعية القائمة على التحويلات النقدية)، والعمل على اعادة تفعيل الاقتصاد الحقيقي وليس الريعي من خلال دعم وتمويل القطاعات الاقتصادية المنتجة (الزراعة والصناعة ) واعتماد سياسات اقتصادية ومالية صحيحة وممنهجة على المدى المتوسط والطويل.
لانه ليس لدى لبنان خيارات اخرى لمعالجة هذه المشكلات في الأمد القصير، وهي مشكلات أفضل سبيل لمعالجتها كان يتطلب التصرف بشكل استباقي وليس كرد فعل وللحيلولة دون استفحال الأزمة اكثر، وذلك كله يتطلب من الحكومة الحالية او اللاحقة تعزيز أوضاع ماليتها العامة عبر إيجاد فرص للتشجيع على الاستثمار وتحفيز النمو الاقتصادي مع ضروة تخفيف الضغوط على المالية العامة، وبذل المزيد من الجهد للتعجيل بإعادة هيكلة الديون، واعادة تنظيم القطاع المصرفي لكي يقوم بدوره الاساسي في دعم وتمويل القطاعات الاقتصادية وتحريك العجلة الاقتصادية دون ان ننسى تطبيق قانون مكافحة الفساد الاداري والمالي، لانه لا قيام للبنان من دون تطبيق هذه الاجراءات والتي تساعد على اعادته إلى طريق الاستدامة المالية والاقتصادية.
(*) أكاديمي وباحث اقتصادي ومالي
الدولارمصرف لبنانجمعية المصارف
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024