آراء وتحليلات
ليز تراس.. المناهضة لاوروبا والمعادية لروسيا
د. علي دربج - باحث ومحاضر جامعي
رسميًا، أصبحت ليز تروس تشغل منصب رئيس الوزراء البريطاني رقم 56 خلفًا لبوريس جونسون الذي أُجبر على الاستقالة بسبب سلسلة من الفضائح، بعد انتخابها زعيمة لحزب العمال وفوزها في الانتخابات على منافسها ريشي سوناك بفارق اقترب من 21 ألف صوت. وكُلِّفت بتشكيل الحكومة بعد زيارتها الملكة إليزابيث الثانية لتشكيل حكومة، حيث كان ثلاثة وخمسون من أسلافها من الرجال.
ما يجب معرفته أن هذا الفوز لم يتم عن طريق انتخابات عامة، بل كانت اختيارًا من قبل 172 ألفاً و437 عضوا في حزب المحافظين فيما بلغت نسبة المشاركة 82.6٪، وبلغت بطاقات التصويت المرفوضة 654 بطاقة. ويشكل هؤلاء الناخبون حوالي 0.3 في المائة من السكان البريطانيين، وهم الأكبر سنًا وثراء، والذين يشكلون ايضا 95 بالمائة من البيض، والأكثر يمينيّة من جميع البريطانيين. فالنظام السياسي الفريد للمملكة المتحدة، يحدد الأعضاء المسجلين بحزب المحافظين، كأشخاص وحيدين يحق لهم تقرير من سيصبح رئيسًا للوزراء.
لكن من هي ليز تراس؟ وكيف بدأت حياتها السياسية؟
في الواقع، بدأت تراس رحلتها السياسية من اليسار. درست السياسة والفلسفة والاقتصاد في جامعة أكسفورد. وخلال دراستها الاكاديمية، تولت رئاسة حزب الديمقراطيين الليبراليين من يسار الوسط في جامعة أكسفورد، حيث تميزت بمواقفها المعارضة للنظام الملكي، وكانت دعت في مؤتمر ليبرالي ديموقراطي في برايتون عام 1994، إلى إلغاء الملكية، وقالت للمندوبين "لا نعتقد أن الناس يولدون ليحكموا". المثير أنها ما لبثت أن تخلت عن موقفها هذا لاحقا.
شغلت تراس ستة مناصب وزارية في عهد ثلاثة رؤساء وزراء، بما في ذلك 11 شهرًا كوزيرة للخارجية. ولكن بعد سنوات من الخدمة العامة، يعترف العديد من البريطانيين بأنهم لا يعرفون تراس حقًا، ليس بالطريقة التي عرفوا بها بوريس جونسون (عمدة لندن السابق، وكاتب عمود صحفي، ومراوغ) عندما تولى منصبه قبل بضع سنوات فقط.
يشير بعض المقربين منها، وممن عملوا معها سابقًا إلى أنه من الصعب للغاية معرفة ما تؤمن به بالفعل. لقد كانت تضبط ايقاع مواقفها بحسب توجهات الجمهور الذي تتحدث إليه.
تفتقر تراس إلى الحيوية الاعلامية التي كان يتمتع بها كل من توني بلير وديفيد كاميرون. كما أنها تفتقد إلى التصميم العنيد لغوردون براون أو الرؤية الصبورة الطويلة الأجل لمارغريت تاتشر، كما أجمع العديد من خبراء السياسة البريطانيين.
أجادت تراس اللعب على الكلام لاستمالة من تخاطبهم، ففي حديث لجمهور من المحافظين الشهر الماضي قالت "قد يعرف الناس عني أن لدي ماضيًا مشكوكًا فيه... كلنا نرتكب أخطاء، كان لدينا جميعًا مغامرات مراهقة، وكان ذلك لي. بعض الناس يتعاطون المخدرات والروك أند رول، كنت في الديمقراطيين الليبراليين. أنا آسفة". ودائما ما تحصل على تصفيق من أعضاء حزبها.
بماذا اشتهرت تراس؟
إن أكثر ما يميز تراس، هو القدرة على التحول دون هوادة، من معتقد راسخ إلى آخر. من العدل القول ــ كما ينقل عارفوها ــ إن تراس متقلّبة (على الطريقة الجنبلاطية في لبنان) ولم تستقر على رأي محدد. فهي كانت قد قاتلت من أجل بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، قبل أن تنقلب على رأيها السابق، وتصبح مدافعة قوية عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ليس هذا فحسب، فأنصارها يقولون إنها قبلت نتيجة استفتاء عام 2016 وانضمت إلى البرنامج فيما يؤكد آخرون أنها تتقلب وتتغير كالطقس وتنتقل من ضفة الى اخرى بسهولة، خصوصًا عندما يتناسب ذلك مع تقدمها.
وصفها منتقدوها بـ "الطموحة"، وقد ردت على ذلك قائلة هذا ما يسمونه دائمًا: "النساء اللواتي ينهضن".
في مقتبل حياتها السياسية، عارضت تراس رئيسة الحكومة السابقة مارغريت تاتشر التي كانت تعرف في عالم السياسة بالمرأة الحديدية، وتظاهرت ضد سياساتِها وحكومتِها في الماضي. لكن المضحك، انها بعد عقودٍ، أرادت زعامةَ حزبِ تاتشر، وحققت مرادها.
تصف تراس والديها بأنهما "ناشطان يساريان"، فوالدها كان أستاذ الرياضيات البحتة في جامعة ليدز، فيما كانت والدتها ممرضة وقائدة محلية لحملة نزع السلاح النووي.
كيف شقت تراس طريقها الى رئاسة الحكومة البريطانية؟
يكشف شقيق تراس في حديث لشبكة "بي بي سي" عام 2017 أن "أخته الكبرى كانت دائمًا واثقة من نفسها ورأيها، وتكره الخسارة، حتى في لعبة مونوبولي. كانت شخصًا يحب أن يفوز. ومع توليها منصب رئاسة الحكومة البريطانية، تكون تراس قد حددت، مرة أخرى، طريقها إلى النصر".
ما ساعد تراس على الوصول الى غايتها، هو أنها على عكس منافسها وزير الخزانة السابق ريشي سوناك، بقيت وفية لجونسون الذي لا يزال يحظى بشعبية بين القواعد الشعبية، وهؤلاء يعترفون بالفعل بأنهم يفتقدونه، ولو كان مرشحًا لكانت لديه فرصة جيدة للفوز.
علاوة على ذلك، تعمدت تراس خلال حملتها الانتخابية، قول الأشياء التي يحب أعضاء حزب المحافظين سماعها، حيث وعدت تراس البالغة من العمر 47 عاما بخفض الضرائب وتعزيز الاقتراض، حتى مع ارتفاع التضخم إلى أكثر من 10 في المائة، وتوقع بنك إنجلترا ركودا مطولا بحلول نهاية العام، إلى جانب ارتفاع أسعار الطاقة الذي من المتوقع أن يضاعف فواتير التدفئة لأصحاب المنازل والشركات أربع مرات
المفارقة هنا أن جوناثان تونج، خبير السياسة في جامعة ليفربول، يرى أن هذا الوعد يشبه إلقاء اللحوم الحمراء على أعضاء حزب المحافظين.
إضافة الى ذلك، أدارت تراس معركتها بحنكة وذكاء، واستطاعت نتيجة لذلك تسجيل العديد من النقاط لصالحها، حيث زعمت أن لديها أصولًا أكثر تواضعًا وشعبية، مقارنة بسوناك.
ولهذه الغاية، استغلت قضية التعليم الخاص الغالي الثمن لسوناك للنيل منه - وهو موضوع حساس في بريطانيا على الصعيد الطبقي - بالمقابل ركزت هي على تحصيلها العلم من مدرستها الثانوية الحكومية في ليدز (وتصوير نفسها بأنها صاحبة شعبية) حيث كان يتم خذلان الأطفال على حد قولها، مع "توقعات منخفضة، ومعايير تعليمية رديئة، ونقص في الفرص". ومع ذلك، اعتبرت ان "هذه التجربة هي التي قادتها في النهاية إلى التحرك بشكل صحيح، وتعتبرها السبب في أنها محافظة".
لكن، مهلا، فكلامها هذا كان مجافيًا للواقع، حيث عارض العديد من الاساتذة والطلاب السابقين وصفها لمدرستها الثانوية بهذه الاوصاف السيئة. ولهذا قال أحد زملائها السابقين في مدرستها الثانوية في حديث لصحيفة امريكية "إذا كان الأمر بهذا السوء، فكيف أعطوها دروسًا خصوصية إضافية للدخول إلى أكسفورد؟ أعتقد أنها تحاول فقط تسجيل نقاط سياسية".
كيف تنظر موسكو إلى تراس؟
في الواقع لا تحظى تراس بشعبية في موسكو وبروكسل، فهي تعدّ حليفًا موثوقًا به لحلف شمال الأطلسي، ومؤيدًا لأوكرانيا. إضافة الى ذلك، تتعاطى تراس مع روسيا من منطلق عدائي، وتتخذ لغة حادة عند الحديث عن الرئيس فلاديمير بوتين، وهي من قادة حملة معاقبة رجال الأعمال الروس، الذين كانوا يعيشون في لندن.
أكثر من ذلك، أيدت رئيسة الوزراء البريطانية فكرة ذهاب البريطانيين للقتال في أوكرانيا، والتي أسقطتها مؤسسة "الدفاع" البريطانية بشدة.
على المقلب الآخر، لا تخلو نظرة موسكو لتراس من الاستخفاف، والدليل على ذلك قول وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن تراس كانت مثالًا بارزًا على عدم فهم الغرب للجغرافيا الأساسية للصراع، بعد أن بدت وزيرة الخارجية البريطانية مرتبكةً خلال اجتماع مغلق في شباط الماضي، حول ما إذا كان إقليمان - روستوف وفورونيج - في روسيا أو أوكرانيا.
وفي محاولة للتخفيف من وطأة هذه الفضيحة، أوضح مسؤولون بريطانيون أن تراس كانت أساءت سماع لافروف، وأن الهفوة المزعومة دعاية روسية تهدف إلى صرف الانتباه عن اعتداءاتها.
ماذا عن علاقتها بالاتحاد الاوروبي وأمريكا؟
بينما لا تتمتع تراس بشعبية في موسكو، فإن تقييم الاوروبيين لها في بروكسيل، سلبي أيضًا، إذ يُنظر إليها على أنها محرّضة، وانتهازية مناهضة لأوروبا يمكن أن تزيد الأمور سوءًا في العلاقة المتوترة بين بريطانيا والكتلة المكونة من 27 دولة.
المثير للصدمة، أنها لم تتورع عن اهانة أقرب حلفائها، بعدما كانت امتنعت الشهر الفائت، عن الإجابة عن سؤال بشأن ما اذا كانت تعد الرئيس ماكرون "صديقا أم عدوا" لبلادها، مكتفية بالقول إنها ستحكم عليه "بناء على أفعاله" الأمر الذي أثار دهشة المراقبين، كون فرنسا أحد أقرب الشركاء التجاريين للمملكة المتحدة.
الطامة الكبرى بالنسبة للأوربيين، أنه عندما أصبحت تراس وزيرة للخارجية قبل عام، كان هناك أمل في أوروبا في أن تثبت أنها شريك عادل، غير أنها وبدلًا من ذلك، دفعت إلى الأمام خططًا لإعادة كتابة جزء رئيسي من اتفاق ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهو بروتوكول أيرلندا الشمالية، مما أثار غضب المسؤولين الأوروبيين. لقد هدمت الثقة في العلاقة مع بروكسل منذ اليوم الأول.
أما فيما يتعلق بعلاقتها مع واشنطن، صحيح أن الرئيس جو بايدن هنأها بمنصبها الجديد، وأمل في أن "تواصل الدولتان التعاون الوثيق بشأن التحديات العالمية، بما في ذلك الدعم المستمر لأوكرانيا"، غير أنه خارج الدوائر الدبلوماسيةليس هناك الكثير من الآراء الرسمية بشأن تراس التي تريد عقد صفقة تجارية مع الولايات المتحدة، لكن الخيبة ان إدارة بايدن غير مستعجلة للتفاوض بشأنها. كما أن البيت الأبيض كان حذرا أيضًا من تحركاتها في ايرلندا الشمالية. بالنهاية يتم الحكم على كل زعيم بريطاني بناء على قدرته على تكوين رابطة مع الرئيس الأمريكي، ولن تكون تراس مختلفة.
في المحصلة، وبناء على ما تقدم، لا يسعنا الا أن نترك تقييم مستقبل قيادة تراس لبريطانيا، الى دومينيك كامينغز، كبير مستشاري جونسون السابق ـــ ساعد في إسقاط رئيسه السابق، ووصف تراس بأنها صندوق مجنون من الثعابين... وقنبلة يدوية بشرية ـــ الذي قال لـ UnHerd، وهو موقع إلكتروني تابع ليمين الوسط، إن تراس ستكون رئيسة وزراء "أسوأ" من جونسون.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024