آراء وتحليلات
روسيا قوضت السيادة العسكرية العالمية لاميركا
صوفيا ـ جورج حداد
نتيجة التفويضات الدولية التي حصلت عليها أميركا بموجب "اتفاقية بريتون وودز" المالية، و"اتفاقية يالطا" الاستراتيجية، و"الاتفاق النفطي" الاميركي ـ السعودي، فرضت الولايات المتحدة الاميركية سيادتها الدولية على "كوكب الأرض" بمجمله، إما مباشرة كما في أميركا اللاتينية، والدول العربية ذات الأنظمة العميلة كالسعودية ودول الخليج النفطية، واليابان وتايوان وكوريا الجنوبية، أو بواسطة "وكلائها": ستالين والستالينية في المنظومة السوفياتية السابقة، والناتو والاتحاد الاوروبي في اوروبا ومناطق نفوذ الدول الاستعمارية القديمة في اسيا وافريقيا.
ولم تشذ عن السيادة الأميركية في حينه سوى الصين التي اصطدمت مع اميركا في الحرب الكورية (1950ـ1953). ولكن اميركا عادت فاستفادت من النزاع الايديولوجي السوفياتي - الصيني الذي بدأ فى 1959 وبلغ ذروته في الصدام المسلح الحدودي في 1969، وعملت ـ اي اميركا - على استمالة الصين ونجحت الى حد كبير في ذلك الى أن تغيرت الأوضاع كلياً بعد انهيار المنظومة السوفياتية والاتحاد السوفياتي ووصول التيار القومي الى السلطة في روسيا في نهاية 1999.
ونجحت أميركا بعد الحرب في تحقيق "انجازين" كبيرين هما:
ـ1ـ استصدار قرار تقسيم فلسطين وانشاء الدولة اليهودية في تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، وذلك بمساعدة ستالين الذي ساق الاتحاد السوفياتي لدعم القرار، مما أسس لاحقا لحرب المائة عام المستمرة بين جماهير الأمة العربية وبين اليهودية العالمية واميركا وأتباعها العرب، مما سيكون له تأثير مصيري على المنطقة والعالم.
ـ2ـ تأسيس حلف الناتو (شمال الاطلسي) العسكري سنة 1949 الذي يضم الآن 29 دولة اوروبية بزعامة اميركا، بالاضافة الى تركيا الاسلامية التي تحاذي روسيا من جهة والبلدان العربية وايران من جهة ثانية.
وبالنسبة لـ"اسرائيل" فقد تم تحويلها بسرعة الى دولة عسكرية قادرة على مواجهة جيوش الدول العربية مجتمعة، ومسلحة بالأسلحة النووية التي تهدد لا البلدان العربية فقط بل وايضا روسيا والصين وايران.
وبعد أن وقع الرئيس الأميركي الأسبق هاري ترومان على حلف الناتو في نيسان/ أبريل 1949، بدأت أميركا تنشر قواتها المسلحة البرية والجوية والبحرية، النووية والصاروخية والرادارية في جميع أصقاع وبحار الأرض، من أجل ارهاب وارعاب جميع شعوب العالم، وبدأت التدخل في الشؤون الداخلية، حتى أصغرها، لجميع بلدان العالم، بحجة الحفاظ على "الامن القومي الاميركي" و"المصالح الاميركية". وتقدر الاحصاءات المعلنة أن الميزانية العسكرية للولايات المتحدة الاميركية حاليا تفوق حجم الميزانيات العسكرية لجميع دول العالم مجتمعة بما فيها روسيا والصين. وقد رفضت اميركا اخضاع عسكرييها لمحكمة العدل الدولية في حال ارتكابهم لاي جريمة، او جريمة حرب او جريمة ضد الانسانية. ومؤخرا هدد ترامب باخضاع محكمة العدل الدولية للعقوبات في حال التعرض لاي من العسكريين الاميركيين المجرمين.
وعن طريق هذا الفجور العسكري فرضت اميركا سيادتها الجيوستراتيجية والسياسية والمالية ـ الاقتصادية (بما فيها النفطية والدولارية) على العالم اجمع، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى نهاية سنة 1999. اي تاريخ وصول بوتين الى السلطة في روسيا.
ومع وصول التيار القومي الى الكرملين، بدأت اولا خطة انقاذ روسيا ذاتها. فأمسكت الـ"KGB" بقرون المافيا الروسية ووضعتها امام الخيار المصيري: إما العمل بإمرة المخابرات الروسية، وإما أن قبور قادتها جاهزة.
وفي المرحلة الأولى من ولاية فلاديمير بوتين بدأت عملية تحرير روسيا من أخطبوط الاحتكارات الدولية الكبرى واليهودية العالمية، بتقطيع اذرع ذلك الاخطبوط. وكان امام اعضاء ذلك الاخطبوط ثلاثة احتمالات: القبر، أو السجن، أو الفرار واللجوء الى الغرب او "اسرائيل".
وفي المرحلة الثانية من ولاية بوتين بدأ التحضير للمواجهة الحربية الشاملة مع أميركا واتباعها.
وكانت نقطة الانطلاق في هذه الاستراتيجية (وحسب عبارات بوتين ذاته) هي: اننا لن نسمح بتكرار خطيئة الحرب العالمية الثانية، وهي انتظار ان تتلقى روسيا الضربة الاولى قبل ان تبدأ بالرد.
إن مشاهد المدن والقرى الروسية المحروقة، وتجميع ملايين المواطنين الروس الأسرى في الساحات العامة وحصدهم بالرشاشات أو المدفعية أو حرقهم بقاذفات اللهب أو سوقهم عبيداً للعمل حتى الموت في معسكرات الاعتقال النازية، هذه المشاهد لن تتكرر ابدا.
وانطلاقا من هذا المفهوم الوطني الذي يجمع عليه الشعب الروسي صيغت العقيدة العسكرية الجديدة للجيش الروسي ومفادها: لن نكون معتدين، ولكننا لن ننتظر ان نتلقى الضربة الاولى! نحن الذين سنضرب الضربة الاولى! وهي ستكون الضربة الأولى والأخيرة لأنها ستكون حتما ضربة نووية ساحقة ماحقة لكل معتد على الامن القومي لروسيا!
وطرحت على الجسم العلمائي لروسيا، ووزارة الدفاع، والمجمع الصناعي الحربي أن يحلوا "المعادلة المتناقضة" في المظهر وهي: ان لا تكون روسيا معتدية، وفي الوقت نفسه ان تكون الضربة الاولى (والاخيرة) لها.
وتمكنت روسيا، بقدراتها العلمية والصناعية والاستراتيجية والاقتصادية ان تحل هذه المعادلة عن طريق:
ـ1ـ تطبيق رقابة الكترونية ـ رادارية ـ مسحية اشعاعية، ارضية ـ جوية ـ فضائية، موحدة، لكل حالة او وحدة عسكرية او مشبوهة موجودة او تتحرك على الارض وفي البحار وفي الجو وفي الفضاء المحيط بالارض، وفك شيفرة حركة الهدف لحظويا، ومعرفة وجهته وهدفه وقدرته، واذا اكتشف انه سلاح معاد متوجه ضد روسيا، ان توجه اليه والى مصدره ودولته او دوله الاسلحة الروسية النووية المناسبة والتي ستكون اسرع من الصوت بعدة اضعاف، وبالتالي ان يجري تدمير الهدف المعادي ودولته او دوله وهو لا يزال "في منطقته" اي قبل ان يصل الى روسيا.
ووضعت أمام جميع أسلحة القوات الروسية: الصاروخية ـ البرية، والجوية، والبحرية، والفضائية، مهمة ان يستطيع كل سلاح بمفرده ان يحقق مهمة الابادة الكاملة للعدو قبل ان تصل اي ضربة لروسيا.
وبناء على هذا المفهوم الاستراتيجي طرحت السلطة الروسية برنامج تطوير وتحديث وعصرنة جميع قوات واسلحة الجيش الوطني الروسي، وان يضاف اليها جيش محترف قليل العدد نسبيا، مؤلل ـ الكتروني ـ اشعاعوي ـ نووي بالكامل؛ وهو ما تنطبق عليه صفة "جيش حرب النجوم" الذي سبق للاميركيين ان تحدثوا عنه منذ رئاسة ريغان (ولكن الاميركيين تحدثوا، اما الروس فطبقوا).
وكل ذلك اصبح ممكنا علميا وتكنولوجيا وصناعيا وميدانيا واقتصاديا لان كل الاقتصاد الروسي وكل امكانيات الدولة الروسية تصب في المجمع الصناعي الحربي لروسيا؛ لدرجة يمكن معها القول ان روسيا هي مصنع حربي هائل في قالب دولة؛ وكل نواحي "الحياة السلمية" في روسيا متوأمة ومدمجة في مخطط حربي دفاعي ـ هجومي شامل.
ويمكن القول ان هذه هي المرحلة الثانية التي طبقتها روسيا وتتابع تطبيقها بعد انجاز مرحلة تقطيع اذرع الاخطبوط الاميركي ـ الغربي ـ اليهودي العالمي داخل روسيا ذاتها. واميركا اليوم "محشورة في الزاوية". وجميع العلماء وكبار العسكريين والاستراتيجيين الاميركيين يعرفون هذه الوقائع ويعرفون أن أي يد تمتد للعدوان على روسيا ستقطع.
وقد خسرت اميركا نهائيا سباق التسلح مع روسيا، لأنها اعتمدت على الكمية والضخامة من أجل جني الارباح؛ في حين ان روسيا اعتمدت النوعية والفعالية، وانتجت اسلحة نوعية لا يوجد لها مثيل في اميركا. كما ان "وحدة الارادة والقيادة" في الدولة الروسية مكنتها من انشاء نظام رقابة وقيادة وفعالية عسكرية موحدة، من قائد القوات المسلحة ـ رئيس الجمهورية حتى اصغر جندي في غواصة تسبح على عمق 4 كلم قرب المياه الاقليمية الاميركية.
وبهذا الانجاز حررت روسيا جميع شعوب العالم من عقدة الخوف من اميركا، وأصبح ترامب يحتار كيف سيتملق الزعيم الكوري الشمالي الشاب ويحصل على رضاه.
وبعد أن فقدت اميركا نهائيا هيبتها العسكرية، أخذت تندفع أكثر نحو تطبيق استراتيجية الضغط السياسي والحصار والتضييق الاقتصادي على روسيا وحلفائها.
وهذه هي الارضية الاساسية للمرحلة الثالثة للمواجهة التي تدخل فيها روسيا اليوم، وهي مرحلة الفكفكة التدريجية للنفوذ السياسي والاقتصادي والمالي لاميركا، عقدة عقدة، من لبنان وسوريا الى اليمن الى فنزويلا؛ ومن استخراج النفط والغاز في شرقي المتوسط الى مد انابيب الغاز الروسية الى قلب القارة الاوروبية.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024