معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

تجربة صندوق النقد مع الاقتصاد المصري.. ماذا عن لبنان؟
19/10/2022

تجربة صندوق النقد مع الاقتصاد المصري.. ماذا عن لبنان؟

أحمد فؤاد

"إندونيسيا، تايلاند، كوريا، روسيا، البرازيل والأرجنتين تشكل 6 برامج فاشلة في 6 سنوات لصندوق النقد الدولي، هذا كثير، بل كثير جدًا على أن يكون محض صدفة".. جوزيف ستيغليتز، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد.

"لو كانت روسيا تحارب أوكرانيا في ميدان الجيزة، لم نكن لنتأثر إلى هذا الحد". بكثير جدًا من العبارات المؤلمة البليغة، الخارجة لتوها من قلب يحترق نارًا وقهرًا لمواطن بسيط، يقدم تاجر الدواجن على إعدام كل "الكتاكيت" (الصيصان أو الأفراخ) التي يربيها في مشهد مدمٍ للقلب، ليس فقط على تلك الكائنات الضعيفة التي وضعت في أكياس بلاستيكية لتختنق حتى الموت، فهو على أية حال ـ برأيه ـ أفضل من الموت الطويل جوعًا، لكن أيضًا على 3 ملايين مصري، لا يزالون يحاربون طواحين الهواء للاستمرار في العمل، تمامًا كأننا نعيد تمثيل مأساة دون كيخوته الأسطوري.

السبب المباشر الذي رد إليه كل العاملين في تلك الصناعة على الكارثة التي ضربتهم في وقت واحد، هو الدولار، المتهم الأول والأوحد، غياب الدولار ومحاولة الدولة السيطرة على الاحتياطيات المتوافرة منه، أو التي قد تتوافر بأية وسيلة، وضع توفير مستلزمات الإنتاج، ومنها الأعلاف والذرة المستوردة على آخر جدول اهتماماتها. اليوم لا يعلو صوت على صوت صندوق النقد الدولي، ومفاوضته للحصول على تمويل ضخم آخر، عله يؤخر السقوط الحتمي.

ببساطة غير مخلة، فإن الوضع المالي لمصر بلغ الكتلة الحرجة، التي تسبق الانفجار الهائل مباشرة. كل الإيرادات العامة للدولة في موازنة 2022/2023 تبلغ بالكاد 1.5 تريليون جنيه فقط، بينما تبلغ التزاماتها، وعلى رأسها أقساط وفوائد القروض الأجنبية الهائلة، نحو 1.66 تريليون جنيه، أي أن البلاد بانتظار إفلاس حتمي، سيؤخره بالطبع الحصول على قرض ضخم جديد من صندوق النقد الدولي، يضاف إلى قروض تم الحصول عليها تتجاوز 20 مليار دولار، جعلت مصر ثاني أكبر دولة مدينة للصندوق برصيد 17.7 مليار دولار، أي ما يتجاوز 187.5% من حصة مساهماتها بالصندوق، ما يفرض ارتفاعًا على أية قروض جديدة.

وترغب الحكومة المصرية بشدة في الحصول على تمويل يتجاوز 5 مليارات دولار، على الأقل، مقابل حزمة جديدة من الشروط، لخصها الصندوق في برامج المراجعة الدورية التي يجريها، في: خفض سعر صرف الجنيه، التوقف عن الدعم العيني للسلع الغذائية خصوصًا، وقف منح القروض بأسعار فائدة تفضيلية، ضمان الحصول على تدفقات مالية موازية من دول الخليج لعلاج عجز الموازنة المتضخم.

في الحقيقية، وبمنتهى التجرد، فإن كل شروط صندوق النقد الدولي تصنع الأزمة ولا تساهم في حلها، كل ما ستفعله أموال الصندوق القادمة هي تأخير السقوط المحتم، لكنها لن تعالج الاختلالات الهيكلية بالاقتصاد المصري، والمستمرة منذ اللحظة الأولى التي دخل فيها الصندوق إلى مصر في عام 1974.

وللتفصيل أكثر، فإن الرئيس الأسبق السادات، طرح في نيسان/ إبريل 1974 "ورقة أكتوبر"، أو ما سيعرف لاحقًا باسم "الانفتاح الاقتصادي"، لتسهيل مهمة أول بعثة لصندوق النقد الدولي إلى مصر، وكانت الورقة تحمل - مثل أي اتفاق جاري مع الصندوق - عددًا من العناوين البراقة الخادعة، مشاركة القطاع الخاص بشكل أكبر في الاقتصاد، وانسحاب الدولة من بعض القطاعات الاقتصادية، وضمان حرية الحركة لرؤوس الأموال.

كان السادات يدشن عصرًا جديدًا بالكامل، عنوانه الانسحاب من الفعل داخل الوطن، ويتيح المجال للرأسمالية الطفيلية لكي تنمو وتكبر وتسيطر على كل مفاصل الاقتصاد والدولة. ونظرة واحدة على عدد المليارديرات في مصر التي كسر فيها الفقر كل رقم متخيل تكفي للحكم على نتائج هذه السياسة بعد ما يقرب من نصف قرن على تطبيقها. مصر الفقيرة اليوم تمتلك أكبر عدد من الأشخاص الذين تتجاوز ثرواتهم مليار دولار في قارة إفريقيا، وبشكل عام هناك 100 ألف مواطن، بنسبة أقل من 0.001%، تتجاوز ثرواتهم المليون دولار، وسط محيط واسع وعميق من الفقر، حيث تبلغ النسب المعلنة ـ من البنك الدولي ـ نحو 60% من عدد السكان فقراء أو عرضة للفقر، بينما يقبع 6.2% من المصريين تحت خط الفقر المدقع.

وبالأرقام أيضًا، فقد تراجعت حصة مصر من الصادرات العالمية، من 37 سنتًا لكل 100 دولار في 1967، إلى 7 سنتات فقط في عام 2000، وتتراجع حصة الصناعات التحويلية والزراعة في الهيكل الاقتصادي المصري من 30% و29% إلى 17% و16% على الترتيب خلال نفس الفترة المقارنة، وبالتالي يعتمد الاقتصاد بصورة كلية، ومنذ منتصف السبعينيات على 5 مصادر للدخل الأجنبي في ظل ارتفاع فاتورة الواردات وعجز القطاعين الصناعي والزراعي المحلي عن توفير الحد الأدنى من ضروريات الحياة، وهي: تحويلات العاملين بالخارج، عائدات السياحة، تصدير النفط والغاز الطبيعي، دخل قناة السويس، وأخيرًا القروض الأجنبية، التي تضاعفت من 1.5 مليار دولار في عام 1970 كديون عسكرية لإعادة بناء الجيش خلال حرب الاستنزاف، إلى ما يتجاوز 155.7 مليار دولار بحسب أحدث البيانات الرسمية الحكومية، مسجلة ارتفاعًا فاق 17.9 مليار دولار عن العام المالي السابق وحده.

من مصر الى لبنان.. هل يضمن الصندوق أية قدرة على تجاوز الواقع؟

في لبنان لا حديث يفوق أهمية الفكرة القائلة بضرورة اللجوء إلى صندوق النقد الدولي، مع عجز قياسي في الموازنة وارتفاع هائل في المديونية الخارجية، وتضخم يأكل الأخضر واليابس، في لبنان، وعملة فقدت 90% من قيمتها خلال أشهر قليلة. وقالت وكالة "بلومبرغ" الاقتصادية، إن التضخم فيه تفوق على كل دول العالم وتجاوز كلًّا من زيمبابوي وفنزويلا، وقال أحدث تقرير للوكالة عن أزمة التضخم التي تضرب العالم ومنه لبنان، إن مؤشر أسعار المستهلك ارتفع بنسبة 137.8% عن شهر آب/ أغسطس من العام السابق 2021، مقارنة بـ 123.4% في تموز/ يوليو 2022، أي أن البلد ببساطة قد دخل مرحلة التضخم الجامح.

خطورة التضخم لا تقف عند أرقام ونسب مرتفعة يشعر بانعكاسها الاقتصاديون وفقط، لكنها أكثر المؤشرات الاقتصادية تماسًا مع المواطن العادي، وانعكاسًا على حياته وأيامه، فالتضخم الجامح أو المنفلت قادر على كسر أو إعادة تشكيل المنظومة القيمية لعموم الناس، ويفقد كل مبدأ معناه وينزع من كل موقف ثوابته، فلا قيمة للعمل المتقن ولا جدوى من فضيلة الادخار ولا فائدة ترجى من التوفير.، الكل باطل تجرفه التراجعات، والغلاء غول يبقى ولا ينهزم.

هل سيضمن الصندوق للبنان أية قدرة على تجاوز واقعه الحالي؟

الإجابة بكل تأكيد لن تخرج عن "لا" كبيرة وواثقة، فالصندوق لم يقدم الحلول لأية دولة قررت الاستعانة به، بل يمارس على طوال تاريخه عملية توغل أميركي تستهدف تدمير أعصاب المجتمع، العارية أصلًا، وهتك قدراته، وتفجير كل طرق العبور أمامه، في النهاية لا شيء يبقى من القروض المبددة سوى الديون للأجيال القادمة، تكبلها وتستنزفها، وتقودها في الطريق ذاته، حيث صحراء التيه.

باختصار، هذا هو ما يحمله صندوق النقد الدولي إلى أي بلد يوقعه حظه العاثر تحت مقصلة إرادته، العجز ثم العجز ومزيد من العجز، العجز عن ضمان توفير الحد الأدنى من مقومات الحياة الإنسانية لمواطنيه، والتدمير الشامل لكل إمكانياته البشرية والاقتصادية، وكأنما هو يعالج المرض بالسم، ثم يترك الضحية التي تجرعته تختنق بهدوء وبغير صخب، حتى الموت.

وإضافة إلى ذلك فإن صندوق النقد الدولي جزء من السياسة الخارجية الأميركية، وهو ما يمكن رده إلى حقيقة أن الولايات المتحدة تملك حق النقض ـ الفيتو  داخل مجلس الحكام الذي يتخذ القرارات في المؤسسة، مع امتلاكها لنسبة 16.5% من الأصوات داخل المجلس، الأمر الذي "يؤمن سهولة أكبر لوزارة المالية الأميركية من أجل ممارسة نفوذها، ووضع الصندوق بأكمله في سلة مصادر القوة والسيطرة الأميركية على العالم، وأداة من أدوات توغلها وتسللها إلى أي دولة في الأرض.

أخيرًا..

‏كان لواحد من أشهر زعماء التحرر الإفريقي، "توماس سانكارا"، الملقب بـ "جيفارا إفريقيا"، لازمة لا تفارق شفتيه، وهي أن "من يطعمك يُحرّكك ويتحكّم بك"، هذا الرجل حوّل واحدة من أفقر دول القارة السمراء، وأقلها امتلاكًا للموارد من دولة تتسول طعامها وتضربها المجاعات في كل عام إلى دولة مكتفية ذاتيًا من الغذاء، بالقليل من الإصرار والإرادة، وبعض التخطيط الجيد لمشكلاتها، وخلال 4 سنوات فقط في الحكم، كانت بوركينا فاسو تحت زعامة "سانكارا"، تقدم يد العون للعديد من البلدان الإفريقية الأخرى، وتقدم الأغذية والسلع الزراعية مجانًا لجيرانها، إلى أن تدخلت يد الغدر الغربية لاغتياله، ووقف تجربته المذهلة عند هذا الحد، في مثل هذه الأيام، وبالتحديد 15 تشرين الأول 1987.

أي قارئ لكل تجارب التنمية، شرقًا وغربًا، لا بد من أن يخرج بنتيجة واحدة، مفادها أن صيحة الامين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله للجهاد الزراعي ليست مجرد دعوة، لكنها تبقى شرطًا أساسيًا للعبور إلى المستقبل، لدى كل باحث أمين عن المستقبل، وأن التوجه إلى القطاعات الاقتصادية الحقيقية، من زراعة وصناعة، هي المبتدأ الذي تبنى عليه جملة الوطن وتسبق كل ما عداها على لائحة الأولويات، وإنه بقدر الاستجابة لهذه الدعوة الكريمة من السيد الكريم، سنمتلك ما هو ضروري لكسر الواقع الحالي وعبوره، وبدونها سنظل أسرى ندور في دائرة الحصار الغربي المفزع، مهما كانت عائدات الغاز الطبيعي المنتظرة، أو عوائدها القادمة.

الفرق بين سماحة السيد وغيره هو أنه لا يقدم أفكارًا جديدة في الفراغ، وإنما يقدم نوع من المعرفة اللازمة التي تقود الفعل الجمعي للناس، ترشد وتقود إلى طريق الخلاص الثوري لقلب الواقع الحالي وكسر كل ما يعترض التحول إلى مجتمع منتج خلاق، قادر على التفاعل والتأثير في الحاضر المعيش، عبر حل تناقضاته وإنضاج عناصر القدرة وسد ثغرات العجز، وابراز كوامنه وتوحيد أركان المجتمع كله، في عملية تنمية مستقلة، تدور أساسًا حول الذات، وتحشد كل مواردها في سبيل أهدافها المرجوة وآمالها الكبرى.

صندوق النقد الدولي

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة

خبر عاجل