معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

أمير الغباء!
26/10/2022

أمير الغباء!

أحمد فؤاد

"أوقية من الإرادة تزن أكثر من قنطار من القناعة والذكاء".
شوبنهاور.

لا شيء في التاريخ الإنساني كله المعروف لنا يعدل الثقة بين الحاكم والمحكوم، كما أن لا قيمة على الإطلاق يمكنها أن تتجاوز غياب الثقة بين الطرفين، مهما بدا حرص الحاكم أو تأكيده على حرصه وحراسته لمصالح شعبه، والعمل الدؤوب في طريق الأماني الكبرى للناس، لعموم الناس.

والواقع يقول إن المحكوم يكتسب ثقته في نظام ما من خلال ما يلتزم به هذا النظام من مصداقية، ومن خلال ممارسته أمام التحديات المختلفة، ومن المبادئ والأهداف التي يسعى حثيثًا لتحقيقها ونقلها من مجال السياسات الموضوعة إلى الحياة اليومية المعيشة، وتمد أمام المواطن جسرًا من الإمكانيات إلى المستقبل، بكل ما يحمله من أحلام، تصل بين واقعه وأمنياته، وفي هذا كله تكون الثقة هي الأجنحة التي تحمل الحلم وتتحمله إلى حيث يريد ويحب أن يكون.

وفي لحظات التحديات التاريخية الكبرى، والطارئة منها تحديدًا، قد يكون القرار الوطني كلمة واحدة من رجل واحد، وضعته الظروف في موقع القيادة ومركز المسؤولية، وحينذاك، تكون الثقة الشعبية على المحك، فهي وإن كانت مثل كل تجربة إنسانية عملية طويلة ومعقدة وتستلزم وقتها لتتكون وتنشأ، وهي -مثل أي فعل إنساني آخر- تنمو بالتجربة وتتأكد بالاختبار، لكنها في الأزمنة السيالة وأوقات الصراعات الكبرى المتشابكة، قد تكون قرارًا واحدًا في لحظة أزمة.

هذه اللحظة هي اليوم، وهذا القرار هو قرار "أوبك" بتخفيض إمدادات النفط إلى الأسواق العالمية، وهذا الرجل المنوط به الاستمرار في قراره، حتى النهاية، هو ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الذي فجر مفاجأة بإعلان الغياب عن قمة الجزائر العربية في مطلع الشهر المقبل تشرين الثاني/ نوفمبر، بحجة طارئ صحي ألم به، وسيجبره على مخاصمة الاجتماع العربي المهم.

وجاء عذر الغياب أقبح من ذنبه، فـ"الأمير" الشاب لا تبدو على جسده أو وجهه متاعب صحية، قد يتحجج بها والده مثلا -86 عامًا- ووضع أذنه الوسطى كان ممتازًا قبل بضعة شهور فقط، حين حملته طائرته لجولات مكوكية طويلة المدى، طوف بها مصر والأردن والإمارات وفرنسا واليونان، ولم يبد عليه من آثار السفر شيء.

ما تثيره الجزائر، الشريك الكبير في "أوبك"، في نفس الأمير، هو ما يواجهه في الواقع من ضغط أميركي عالي الوتيرة للعدول عن قرار دعم جهود منظمة الدول المصدرة للنفط في إعادة ضبط الأسواق، وهو ضغط معلن ويقوده الإعلام، قبل أن يكون عبر أسلاك الهاتف وفي أروقة الدبلوماسية المظلمة الصموت.

هل يستعد ابن سلمان لصفقة كبرى مع واشنطن، بالتماهي مع جهودها لحصار الموارد الروسية الهائلة من النفط والغار، وبالتالي كسر شركائه في "أوبك"؟ هذا هو الاتجاه الغالب للأسف، مع البداية العملية لخطط نقل السلطة من الأب نصف الحاضر إلى الابن وملك المستقبل، مع إعلان تولي ابن سلمان رئاسة مجلس الوزراء السعودي.

والعارف، حتى لو لمامًا، بطبيعة العلاقات السعودية - الأميركية، سيفهم على الفور أن خروجًا من جانب الرياض عن طريق التبعية الكاملة لواشنطن، أكثر بكثير من أن تتحمله الأعصاب العارية لسلمان وابنه في الوقت الحالي، فضلًا عن أنه أمر خارج إطار التفكير للعائلة المالكة ككل، في أي وقت وتحت ضغط أية ظروف.

والغياب غير المبرر ولا المفهوم، والذي يعد المرة الثانية التي يهرب فيها ابن سلمان من زيارة للجزائر، بعد إلغاء الأولى في نهاية تموز/ يوليو الماضي، هو توطئة فيما يبدو لعودة السعودية عن قرار خفض ضخ مليوني برميل من النفط يوميًا، وهو إن حدث، سيعقبه انهيار هائل في أسعار النفط، ربما لن يكون من المستغرب أن تتراجع حتى أقل من مستوياتها التي بلغت 55 دولارًا قبل شهرين فقط، مع حمى التقارير التي تجزم بتراجع النمو الاقتصادي للصين، وهو ما سيشكل ضربة مزدوجة للأسعار ولاقتصاديات الدول المصدرة، وعلى رأسها روسيا.

أما عن الأثر الذي سيخلفه هذا القرار على الموازنة السعودية، بغض النظر عن أي مكسب سياسي لشخص ابن سلمان، فهو أثر كارثي بكل تأكيد، وكل التقارير الدولية التي ترصد أو تتابع، تؤكد أن سعرًا لبرميل النفط عند مستوى أقل من 70 دولارًا يمثل ضغطًا سلبيًا هائلًا على الموازنة السعودية، ويهوي بجانب الإيرادات فيها إلى أقل من المصروفات، وبالتالي يولد عجزًا مستمرًا.

وخلال السنوات من 2015 إلى 2021، ونتيجة لاستجابة الرياض لضغوط الولايات المتحدة، وحربها التي كانت اقتصادية بالدرجة الأولى ضد روسيا وضد إيران، فقد استمرت الموازنة السعودية بالنزيف، إلى أن جاءت الحرب الروسية في أوكرانيا، والقفزة الضخمة للأسعار لتعود الموازنة إلى سيرتها الأولى من الفائض، وتحقق للمرة الأولى منذ 2016، فائضًا نصف سنوي يبلغ 135 مليار ريال، تقدّر بـ 7% من النّاتج المحلّي الإجمالي، وبتقديرات إجمالية متفائلة أن يصل الفائض في نهاية العام الجاري 2022 إلى 335 مليار ريال، مدفوعة بارتفاع الإيرادات العامّة إلى 1338 مليار ريال، بنسبة زيادة 38% عن العام الماضي 2021.

والسؤال الذي يطل معلقًا فوق الرؤوس هو: هل سيضحي ابن سلمان بالفائض في مقابل الضغط الأميركي، ويشتري رضا واشنطن بالمزيد من العجز والسحب من الاحتياطيات السعودية الضخمة، سواء من الصندوق السيادي أو غيره وبالتالي يهز مقدمًا شرعيته في الشارع والمجتمع، أم سيكسر الإرادة الأميركية، وهو ما يعني أن ينسى حلمه بالعرش في اللحظة التي يغيب فيها أبوه عن السلطة؟ الإجابة بالتأكيد ستحددها شخصية الأمير المراهق، لكن الأكيد أنها ليست من نوع شخصية جيفارا أو كاسترو وثوريتهما المبدئية، لكنها من نوع شخصية راعي البقر المستعد للمراهنة على كل ما يملك لقاء حلمه بالتاج.

وفي كل الأحوال فإن أي نظام حكم، في أي مجتمع بشري، يسعى حثيثًا إلى أن يضاعف ثقة المواطن -المحكوم- من خلال ما يتكبده من جهد وعناء في سبيل تحقيق المصلحة الوطنية العليا، دون أن يهمل وقع الأحداث الدولية أو الإقليمية والعقبات التي تخلقها في وجه المسيرة، ودون أن يسقط الواقع الثقافي والاجتماعي للبلد ومدى قدراته على التحمل والصبر، وأن يستجيب في كل وقت إلى الهواجس والمخاوف، ويكون قادرًا في الوقت ذاته على طرد الشكوك وإزالتها، وفي كل ذلك يستطيع مبادرًا أن يخاطب هموم المواطن الاقتصادية والسياسية واليومية، التي يحياها كلما أشرق عليه صباح أو جن عليه ليل، وإلا فإنه يخاطر ليس بشرعيته وحدها، لكن بعرشه أيضًا.

محمد بن سلمان

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات