معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

العراق.. أولويات تصحيح المسارات تبدأ من محاربة الفساد
31/10/2022

العراق.. أولويات تصحيح المسارات تبدأ من محاربة الفساد

بغداد - عادل الجبوري

   لا شك أن الفساد المالي في أي دولة، لا بد أن تكون له أبعاد وخلفيات ومناخات سياسية مناسبة، لا سيما اذا كان كبيرًا جدًا ومستفحلًا، وله تأثير واضح ومباشر على الأوضاع الاقتصادية والحياتية لأبناء المجتمع. ولعل العراق يعد مصداقًا ومثالًا شاخصًا على ذلك، وتحديدًا ما يتعلق بحقبة العقدين الماضيين، دون أن يعني ذلك أنه خلال المراحل السابقة لها كانت الأمور تسير بالاتجاه الصحيح، بل ان منظومة الحكم الديكتاتوري الاستبدادي السابق، كانت مستأثرة بمعظم موارد وامكانيات الدولة وتتصرف بها كيفما تشاء دون أي محددات أو ضوابط أو قوانين ملزمة ورادعة.

   ومما لا يختلف عليه اثنان، أن عوامل عديدة ساهمت في استشراء الفساد المالي بشتى أشكاله ومظاهره وصوره منذ عام 2003، من بينها، خضوع العراق للاحتلال الأجنبي الأميركي، حيث إن شخوص ذلك الاحتلال وطبيعة أجنداته، هم أول من أسسوا لثقافة الفساد في العراق، وعملوا على ترويجه ونشره. ومن يطلع على ما فعله الحاكم المدني الأميركي في العراق بول بريمر(2003-2004) خلال عام واحد، يكتشف فداحة وفظاعة تركة الفساد الأميركية في هذا البلد.

   والعامل الآخر، يتمثل بضعف السلطة الحاكمة-الحكومة، وتقاطع مصالح وأجندات وأولويات القوى والكيانات السياسية المشاركة بإدارة وتسيير شؤون الدولة، والسعي المحموم للاستئثار بالمغانم والامتيازات بكل الطرق والأساليب، إلى جانب خضوع بعض المؤسسات والمفاصل المعنية بمحاربة الفساد للأجندات والمصالح السياسية لهذا الطرف أو ذاك، وافتقار الأجهزة القضائية الى الحزم الكافي لردع الفاسدين والمتجاوزين على المال العام.

   وتقدر بعض التقارير، حجم المبالغ التي ذهبت هدرًا خلال التسعة عشر عامًا المنصرمة الى جيوب شبكات الفساد، والأحزاب والقوى والشخصيات السياسية، والى الجماعات الارهابية، وتلك التي تبددت جراء سوء الادارة والتخطيط، بما لا يقل عن ثلاثمائة مليار دولار، وهي أرقام مهولة جدًا. ولولا الفساد وسوء الادارة، وضعف الشعور الوطني، وتغليب المصالح الخاصة على المصالح العامة، لكان لتلك الأموال الطائلة، بل وحتى جزء منها، أثر كبير في التطور والتنمية والبناء والعمران في كل الجوانب والمجالات.

   والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل بإمكان رئيس الوزراء الجديد محمد شياع السوداني تصحيح المسارات الخاطئة، ولو بالحد الادنى؟

  لأول وهلة،  سيكون الجواب بالنفي، فيما اذا بقيت أمور البلاد تدار بنفس الأساليب والأدوات والعقليات السابقة، اذ إن القاعدة المنطقية تقول (المقدمات الصحيحة تؤدي الى نتائج صحيحة) والعكس صحيح.

   وبعيدًا عن مجمل أجواء حراك تشكيل الحكومة الجديدة، وما شهده من تنافس وتدافع محموم، لم يختلف في الشكل والمضمون عن ما كان يجري في تشكيل الحكومات السابقة، وما كانت تنتهي اليه المساومات والمفاوضات من مخرجات، فإن الاختبار الحقيقي للسوداني بعد نيل حكومته ثقة البرلمان، سيكون ملف سرقة الامانات الضريبية التي قدرت بمليارين ونصف الميار دولار، ووصفت بأنها (سرقة القرن)، وكيفية تعاطيه معه، رغم أن هذا الملف بات في عهدة القضاء، بيد أن دور السلطة التنفيذية ورؤيتها في ذلك ليس بقليل ولا هامشي.

   وسيجد السوداني نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما، الأول يتمثل بفتح ملف الفساد على مصراعيه، انطلاقًا من تعهده بأن تكون محاربة الفساد وتقديم الخدمات في مقدمات أولويات عمل حكومته. ولا شك أن ملاحقة كل خيوط وملابسات (سرقة القرن)، يعني في ما يعنيه رفع الغطاء عن ملفات فساد وفضائح أخرى قد لا تقل حجمًا وخطورة عن الفضيحة الأخيرة، وهو ما يمكن أن يفضي الى سقوط رؤوس كبيرة، وتفكيك شبكات عميقة، وحدوث اهتزازات وزلازل سياسية عنيفة.

   أما الخيار الثاني أمام السوداني، فيتمثل بالعمل على لملمة الأمور واحتواء تفاعلاتها وتداعياتها الخطيرة، والتضحية ببعض أعضاء شبكات ومنظومات الفساد وغض الطرف عن الكثير منهم، لا سيما الكبار، تحت ذريعة تجنيب البلاد أزمات ومشاكل خطيرة.

   بالنسبة للخيار الأول لو قرر رئيس الوزراء الجديد الأخذ به، فسيكون نقطة الشروع الحقيقية لتصحيح المسارات الخاطئة، لانه مهما كانت تبعاته الآنية كبيرة وخطيرة، فإن نتائجه وثماره على المديين المتوسط والبعيد سوف تكون جيدة للغاية.

  وأغلب الظن أن هذا الخيار، وتبني كشف كل خفايا سرقة القرن، ومحاسبة المتورطين بها، سيترتب عليه ملاحقة رؤوس كبيرة وشخصيات محورية في الحكومة السابقة، مع التأكيد على حقيقة ان ملفات وقضايا الفساد الكبرى لا تنحصر بعهد تلك الحكومة فحسب، وانما تمتد الى كل الحكومات السابقة لها، مع تفاوت وتباين في حجم الفساد خلال حقبة كل حكومة، وتفاوت وتباين في جدية أصحاب الشأن بمحاربته. لكن حجم "سرقة  القرن"، ربما لم يكن له مثيل سابق.

  وبحكم توليه مواقع حكومية وبرلمانية مختلفة طيلة الاعوام الثمانية عشرة الماضية، فإن السوداني يمتلك اطلاعًا واسعًا واحاطة كافية بالكثير من التفاصيل والجزئيات والخفايا والأسرار، التي من شأنها أن تختصر له الطريق.  في مقابل ذلك، فإن عدم الحزم والحسم والضرب بيد من حديد في التعاطي مع ملف سرقة التأمينات الضريبية، سيكون مؤشرًا سلبيًا وانطلاقة غير مشجعة في مهمة السوداني، وتناقضًا بين الاقوال الصادرة والافعال المنتظرة منه، وفي ما بعد يمكن أن يفضي الى تفجر غضب الشارع الناقم على عموم الطبقة السياسية جراء الفساد والمحاصصة والاهمال وسوء الخدمات، ومن غير المستبعد ان تفضي الى انهيار العملية السياسية برمتها، خصوصًا وأن عوامل الاحباط والفشل والانسداد ما زالت وستبقى قائمة ومتحركة ومؤثرة، ولن يكبح جماحها سوى تفعيل وتحريك عوامل النجاح والانجاح بوتيرة أسرع، والرهان اليوم معقود على السوداني وفريقه المساعد وتشكيلته الحكومية.

    إن تقليص مساحات الفساد -إن لم يكن ممكنا القضاء عليه بالكامل- سيساهم في جانب منه بتحسين واقع الخدمات تلقائيًا، ووقف تبديد موارد الدولة، وفي جانب آخر منه، سيكون عاملًا مساعدًا في الحرب المتواصلة على الارهاب والعمل على تجفيف كل منابعه، سواء الداخلية منها أو الخارجية. وفوق ذلك كله، فإن نجاح السوداني في ملف الفساد، سينعكس ايجابًا على الملفات الأخرى، وبالتالي سوف يوجد قدرًا كبيرًا من الاستقرار السياسي والمجتمعي، الذي ان لم يتوفر بمستواه المعقول، فحينذاك من الطبيعي جدا توقع وانتظار أسوأ النتائج والخيارات، وهذا هو الاختبار الحقيقي والعسير للسوداني وحكومته الجديدة.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات