آراء وتحليلات
حرب الاستنزاف الروسية ضد الكتلة الامبريالية الغربية (2/3)
صوفيا - جورج حداد | خاص العهد
كانت تصريحات الدوائر الأميركية و"الناتوية" تتوالى بأنه لن يجري ضم أوكرانيا إلى حلف "الناتو"، أو أقله أنه لن يجري النظر قريبًا في هذه المسألة. ولكن الوقائع على الأرض كانت تؤكد أن كل هذه التصريحات الهوائية لم تكن سوى أكاذيب، الهدف منها "تطمين" القيادة الروسية ومحاولة خداعها. أما الأفعال على الأرض فكانت تكذّب تلك الأقوال. ومن ذلك:
1 - رفع تعداد الجيش الأوكراني من 260.000 كما كان قبل انضمام القرم إلى روسيا مجدداً إلى 400.000 ألف، وضم فيالق العصابات الفاشية الى وحدات مندمجة في الجيش الرسمي الاوكراني، ووصول آلاف المستشارين والخبراء العسكريين والمدرِّبين الأميركيين والناتويين لتدريب "الجيش الأوكراني الجديد" على الأسلحة الغربية التي بُدئ بتزويد أوكرانيا بها بكثافة وبدون اتفاقات معلنة وضجيج إعلامي، وتم تحويل "العقيدة العسكرية" للجيش الأوكراني الجديد من "عقيدة أوكرانية" إلى "عقيدة أورواطلسية ــ ناتوية".
2 - تجميع السفن الحربية الأميركية والناتوية في البحر الأسود، والمحاولات الاستفزازية لخرق المياه الاقليمية الروسية (للقرم)، ونشوء خطر التصادم المباشر مع قطع البحرية الحربية الروسية.
3 - حشد أكثر من 380.000 جندي ناتوي (بما في ذلك "قوات النخبة" الأميركية) في الدول الناتوية والموالية للغرب، المحيطة بروسيا والقريبة منها، كدول البلطيق وبولونيا ورومانيا وجيورجيا وبلغاريا.
4 - القيام بمناورات متواصلة لقوات الناتو، بالقرب من روسيا، تدور كلها على محاكاة شن الهجمات على روسيا.
5 - نقض أميركا لاتفاقية منع نشر الصواريخ ذات الرؤوس النووية، قصيرة ومتوسطة المدى؛ واعادة نشر هذه الصواريخ الأميركية في الدول الأوروبية ولا سيما المحيطة بروسيا، بحيث يمكنها الوصول إلى موسكو بخلال 6 - 7 دقائق منذ لحظة انطلاقها، مما يصعّب على منظومات الدفاع الروسية قدرة اصطيادها.
6 - تسربت إلى القيادة الروسية المعلومات التي تفيد أنه باشراف وقيادة الخبراء والاختصاصيين الأميركيين والناتويين، تم ويتواصل تحضير وتسليح الجيش الاوكراني الشوفيني - الفاشي الجديد، بالأسلحة الكيماوية والجرثومية وما يسمى القنابل "القذرة" المركّبة من مزيج من المواد المتفجرة واليورانيوم المنضب؛ وبأنه جرى كذلك سرًا تزويد هذا الجيش بقذائف مدفعية نووية أميركية "تاكتيكية"، وأنه سيتم استخدام كل هذه الأسلحة للدمار الشامل بشكل "صاعق" ضد الجانب الروسي، العسكري والمدني.
7 - في الوقت ذاته كانت أميركا والدول الغربية تشن على روسيا (تحت عنوان العقوبات) حربًا مالية، اقتصادية، وسياسية، شاملة، لا سابقة لها، بهدف خنق وتجويع الشعب الروسي، وتحريك المعارضة "الديمقراطية" القذرة والعميلة، داخل روسيا، وإضعاف القدرات القتالية للجيش الروسي.
أمام هذه المعطيات وغيرها من المعلومات الاستخبارية، توصّلت القيادة والمراجع الروسية المعنية إلى الاستنتاج أنه يجري التحضير لهجوم مباغت، أوكراني ــ ناتوي ــ أميركي ضد روسيا، في ربيع وصيف 2022 وقبل الشتاء القادم 2022 ــ 2023؛ لتجنب الصعوبات التي يفرضها الشتاء الروسي على الجيوش المهاجمة، وأن الهجوم يمكن أن يتدرج على ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: معركة أوكرانية شاملة ضد روسيا، تحت الشعار "الوطني الاوكراني" الزائف: تحرير القرم والاراضي الاوكرانية ممن يسمون "المحتلين الروس"، اي بمن فيهم الروس والناطقون بالروسية ــ السكان الاصليون لشرق وجنوب شرق اوكرانيا. (والشيء بالشيء يذكر، فإن اعداء المقاومة في لبنان، من سمير جعجع وفؤاد السنيورة الى كريم مروة والياس عطالله يسمون كذلك "حزب الله" اللبناني الصميم: "احتلالا ايرانيا"!). وكان من ضمن المخطط ان يشارك في هذه المعركة القادة العسكريون والمستشارون والخبراء والاختصاصيون بالاسلحة الكيماوية والجرثومية والقذرة والنووية، الاميركيون والناتويون.
المرحلة الثانية: رفع شعار "الدفاع عن اوكرانيا" ("الصغيرة" و"الضعيفة" و"المسكينة"!) ومنع سحقها من قبل الدب الروسي "اللادمقراطي" و"المتوحش" و"المعتدي"، كمظلة سياسية لكي تتدخل القوات الناتوية المحتشدة مسبقا في بحر البلطيق واوروبا الشرقية والبحر الاسود والقوقاز، وتشن الهجمات البرية والبحرية والجوية والصاروخية، وبكل الاسلحة الكلاسيكية والقذرة والنووية، ضد جميع الاراضي الروسية، من قسمها الاوروبي الى الشرق الاقصى والقطب الشمالي. وطبعا تشارك في هذه المعركة الجهنمية الناتوية ضد روسيا، القوات والاسلحة الاميركية المنتشرة على الاراضي الاوروبية وغيرها من المناطق.
أما الأراضي الأميركية ذاتها، وبموجب هذا المخطط، فتبقى خلف الاطلسي بعيدة عن القتال وما يتسبب به من دمار جهنمي لكل الأطراف المشاركة فيه.
المرحلة الثالثة والأخيرة: تنزل كافة الجيوش الأميركية بكثافة، وتنتشر في جميع البحار والاراضي الاوروبية والروسية، المدمرة والمنهوكة الى أقصى حدود، وتحتشد في أراضي الشرق الأقصى الروسي، بمواجهة الصين من البر، ووضعها ــ أي الصين ــ بين فكي كماشة حصار أميركي بري من الشرق الأقصى الروسي، وبحري من البحور المحيطة بالصين، وإجبار الصين وكوريا الشمالية على الرضوخ التام للهيمنة الاميركية، او تدميرهما بالكامل بالقنابل النووية، ولا حسيب ولا رقيب. وكل من يرفع رأسه بعد ذلك سيكون مصيره الدمار الشامل كمصير روسيا وأوروبا والصين وكوريا الشمالية. ومن ثم تتم دعوة الجمعية العامة لـ"الامم المتحدة" طيبة الذكر لوضع الأسس "الشرعية" لفرض "السلام الأميركي" (Pax Americana) على العالم.
ولكن كل هذا المخطط العدواني الجهنمي المبيت، الناتوي ـــ الأميركي، الذي كان سيستخدم الجيش الاوكراني كمخلب قط، جرى كشفه وفضحه واسقاطه بالضربة القاضية ودفنه قبل أن يولد، عن طريق العملية العسكرية الروسية في اوكرانيا، تحت عنوان "العملية العسكرية المحدودة"، التي وافق عليها البرلمان الروسي (الدوما)، والتي بدأت في 24 شباط/ فبراير 2022.
وقد ادارت القيادة الروسية هذه "العملية العسكرية المحدودة" لتطبيق خطة عسكرية - سياسية مدروسة، يمكن تسميتها:
"الخطة أ" (plan A) لحرب الاستنزاف الروسية، وكانت هذه الخطة تهدف إلى تحقيق ما يلي:
1 - تعطيل قدرات الجيش الأوكراني، وشل حركته، وشرذمته إلى أقصى حد ممكن.
2 - توجيه ضربات قاسية إلى عصابات ومجموعات التنظيمات الفاشية التي تقاتل مع الجيش الاوكراني.
3 - الدعم الأقصى للجمهوريتين الشعبيتين في الدونباس (دانيسك ولوغانسك) وتحرير مقاطعتي خيرسون وزابوروجيا، الواقعتين بين حوض الدونباس وشبه جزيرة القرم، لخلق تواصل أرضي بين شبه جزيرة القرم والمقاطعات الروسية الجديدة في شرق وجنوب شرق أوكرانيا.
4 - التقدم باتجاه أوكرانيا الوسطى وتحرير أكبر عدد من المدن والأرياف فيها، مع الحرص الشديد على المدنيين ووقوع أقل قدر ممكن من الخسائر البشرية في صفوفهم، لأن روسيا تعتبر هؤلاء المدنيين الأوكرانيين أشقاء للشعب الروسي.
5 - محاصرة العاصمة كييف وتضييق الخناق عليها والتحضير لدخولها في أي لحظة.
6 - تغيير النهج الاستراتيجي للسلطة الأوكرانية، المعادي للروس وروسيا والموالي للامبريالية الغربية والصهيونية، إما بإجبار السلطة الراهنة على تغيير نهجها، أو بقيام أنصار الرئيس الشرعي السابق فيكتور يانوكوفيتش (اللاجئ الى روسيا)، بالتعاون مع الضباط الوطنيين الاوكرانيين المستقلين، وتنظيم "انقلاب وطني اوكراني" يعيد الأمور إلى نصابها الحقيقي، ويعيد العلاقات التاريخية الأخوية الروسية - الأوكرانية إلى مجراها الطبيعي.
وهذا بالتحديد كان هو الهدف الجيوبوليتيكي الرئيسي للعملية العسكرية الروسية المحدودة.
وفي الأيام الأولى، بل وفي الساعات الأولى، للعملية العسكرية الروسية المحدودة، طبقت القوات الروسية تاكتيك "قفزة النمر"، وتمت السيطرة الكاملة على الأجواء الأوكرانية، وضرب البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في أوكرانيا، بحيث فقدت جميع القوات الأوكرانية الاتصالات مع قياداتها وفيما بين بعضها البعض، كما تم ضرب جميع قواعد وتجمعات الجيش الأوكراني والمطارات والسكك الحديدية ومخازن الأسلحة والذخائر وحظائر الدبابات والمدفعية والشاحنات وغيرها من الأهداف العسكرية المفصلية، كما تم تحرير العديد من المدن والمؤسسات الأوكرانية، بما في ذلك محطة تشيرنوبيل النووية.
وفي غضون يومين أو ثلاثة تم شل حركة الجيش الأوكراني الكبير (400.000 مقاتل) وتحويله إلى قطعان ماشية مفككة، حائرة وضائعة، محرومة من الاتصالات، وليست في وضع هجوم ولا في وضع دفاع، ولا تعرف كيف ومن أين ستأتيها الضربات "المعادية". كما تمت محاصرة كييف تمامًا. وكانت مدافع الميدان مذخّرة، والطائرات المقاتلة مستننفرة في الأجواء، والصواريخ منصوبة، وكلها جاهزة للاطلاق فورًا.
وقد فاجأت هذه العملية وأربكت جميع القيادات السياسية والعسكرية الأميركية والناتوية، ناهيك عن الأوكرانية، التي فقدت كلها زمام المبادرة في ادارة الصراع، وتحولت المبادرة كلية إلى القيادة الروسية، التي أجبرت قيادات اميركا والناتو والاتحاد الاوروبي أن تتعلم مكرهة وللتو كيف ترقص رقصة "كازاتشوك" الفولكلورية الروسية مع الدب الروسي.
ولكن "الخطة أ" (plan A)، التي حققت النجاح التام في جانبها العسكري، تعرضت للإخفاق في هدفها الجيوبوليتيكي الأخير: فلا حكم زيلينسكي تراجع عن نهجه، بسبب الدعم السياسي والمالي والاقتصادي والعسكري الهائل الذي تلقاه من الغرب الامبريالي المذعور، ولا "الانقلاب الوطني الاوكراني" حدث، لأسباب عدة، أهمها اثنان:
- أن الرئيس الشرعي السابق فيكتور يانوكوفيتش تخلف عن القيام بواجبه الوطني التاريخي والنزول الى الساحة وقيادة معركته الوطنية والشخصية، في حين أن العميل الامبريالي الغربي الصهيوني فولودومير زيلنسكي، الى جانب المحيطين به من العسكريين والسياسيين الانقلابيين العملاء، والقادة النازيين والصهاينة، الذين يدركون مصيرهم في حال هزيمتهم، قد خاضوا المعركة كمعركة حياة أو موت بالنسبة له ولهم.
- أنه بعد انقلاب شباط/ فبراير 2014 فرض النازيون الذين سيطروا على الساحة السياسية بالتعاون الوثيق مع المخابرات الناتوية والأميركية والاسرائيلية، رقابة مشددة على جميع ضباط الجيش وأجروا "تبديلات مناسبة!" شاملة، ولا سيما بعد تمرد قائد وضباط البحرية للاسطول الحربي الأوكراني في البحر الأسود، الذين انضموا مع سفنهم الحربية إلى الاسطول الحربي الروسي؛ وصار النازيون يحصون أنفاس كل ضابط أوكراني، وجميع الضباط أصبحوا يعيشون تحت التهديد الدائم لهم ولعائلاتهم فيما اذا بدرت من أي منهم أي كلمة أو تصرف "مشبوه" في نظر النازيين.
وفي هذا الوقت كان سائقو الدبابات الروسية يمسكون بمقاود دباباتهم بانتظار صدور الأمر بالتقدم بين ثانية وأخرى للسيطرة على كييف.
ولكن النازيين وضباط الجيش الانقلابيين عمدوا الى تكتيك حفر الخنادق واقامة المتاريس في شوارع كييف، كما حوّلوا المعاهد التعليمية والمستشفيات والمؤسسات العامة إلى ثكنات حربية ومستودعات أسلحة، وشرفات وأسطح المنازل إلى مرابض لمدفعية الهاون والرشاشات، وللقناصين وقاذفي الصواريخ المضادة للدبابات وطائرات الهيليكوبتر.
واتضح تمامًا أن اقتحام كييف سيؤدي إلى وقوع خسائر كبيرة في صفوف المهاجمين، وخسائر هائلة في صفوف المدنيين، والتدمير شبه التام لمدينة كييف التي تحتل مركزًا هامًا في وجدان وتاريخ الشعب الروسي.
ولهذا قررت القيادة الروسية اجراء تعديل أساسي في الهدف الجيوبوليتيكي الأخير للعملية العسكرية المحدودة، وأصبح الهدف: انضمام شرق أوكرانيا الى روسيا، والسيطرة الكاملة على شرق اوكرانيا وبحر آزوف وعلى الحركة البحرية، المدنية والعسكرية، في البحر الأسود.
حرب الاستنزاف الروسية ضد الكتلة الامبريالية الغربية (1/3)
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024