آراء وتحليلات
البنك الدولي ولبنان.. مسلسل ممل وطعنة متكررة
أحمد فؤاد
كانت كلمة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر التي عدت شرارة عملية البدء في تأميم قناة السويس في السادس والعشرين من تموز/ يوليو 1956، فارقة، وإجابة عن سؤال مصيري لا يزال معلقًا فوق رأس كل مواطن عربي، وكل دولة عربية، وهو سؤال "ماذا بعد؟".
اختار الرئيس المصري أن يرمّز أمر تأميم القناة بكلمة "ديليسبس"، المهندس الفرنسي الذي حصل على امتياز حفر قناة السويس، وأن يربطها على نحو بالغ الذكاء والدقة بـ "يوجين بلاك"، رئيس البنك الدولي آنذاك، وهو الطرف الذي فاوضه عبد الناصر شهورًا طويلة للحصول على تمويل لبناء السد العالي، دون فائدة.
وأسهب الأستاذ محمد حسنين هيكل، في كتابه الشهير "حرب الثلاثين سنة/ ملفات السويس"، في وصف المناخ الذي أدى بالرئيس المصري إلى المخاطرة بدخول حرب كبرى في المنطقة، بل وقبوله بمقامرة احتمالات الصدام مع القوة المستعمرة السابقة، والتي لم يكن مضى على رحيلها سوى شهور فقط، عقب القرار الأميركي بسحب عرض تمويل السد العالي، عبر بيان مهين صاغه وزير الخارجية الأميركي جون فوستر دالاس، وبالتالي انهيار كل أمل في بناء مشروع مصر العظيم.
يقول هيكل إن احتمالات الصدام المسلح كانت قائمة طوال الوقت في فكر الرئيس المصري، وفي جلسة مجلس الوزراء التي كانت أول مناسبة يطرح فيها على نطاق واسع قرارًا مصريًا بتأميم شركة قناة السويس، فإن الفرحة والشعور بلذة الانتصار كانت هي أول رد فعل للوزراء المجتمعين، ويضيف: "كانت قناة السويس جرحًا غائرًا في الضمير الوطني المصري"، كما كانت اعتداءً يوميًا مستمرًا على سيادة الدولة على جزء من إقليمها وأرضها، وانتهاكًا لكل معاني الاستقلال، وكانت الشركة "دولة داخل الدولة، أو دولة فوق الدولة"، لها علمها وأرضها وقانونها، بل وشيفرتها الخاصة للاتصالات، وعلاقات مع أطراف دولية، وحتى وصولًا لعلاقات مباشرة مع كيان العدو، ورغم هذا كله، تخوف بعض المسؤولين الحاضرين من تبعات مواجهة مسلحة فوق طاقتهم على الاستيعاب أو قدراتهم على التصرف، بينما دعا بعضهم لإجراء أقل إثارة لغضب الغرب، إلا أن رد الزعيم كان حاضرًا: "عواقب تأميم 50% من أسهم القناة هي عواقب تأميم 100%، ما يغضب الغرب هو أن نفرض إرادتنا، وبالتالي لا فائدة من الوصول لمنتصف الطريق".
وكان الرابط الذي دعا عبد الناصر إلى تعمد التذكير بواقعة قديمة، وهي مأساة حفر قناة السويس، وأخرى حديثة وهي الحصار الأميركي على مشروعات الاستقلال الاقتصادي والتنمية في مصر، أبلغ من كل شاهد، وأبقى من كل كلمة أو تحليل، فكما كانت معركة العدوان الثلاثي هي درة التاج في قصة الصمود والصعود المصري فترة منتصف القرن العشرين، وذروة القمة الشامخة للكبرياء الوطني العربي والمصري، كانت هذه الرابطة هي المؤشر الدائم على استمرار عداء الغرب وقواه وحكوماته لشعوبنا، وازدرائها الدائم لأحلامنا، ومواقفها العدوانية ـ والمبدئية كذلك ـ ضد قضايانا.
وفي مقابل استرداد مصر لـ "حقها" المسروق وصيانة شرفها الوطني، عبر قرار تأميم قناة السويس، وقعت واقعة الغرب، وجاءت حرب 1956، ردًا مباشرًا على تصرف وطني ومسؤول لدولة عربية، ولولا الصمود الشعبي الأسطوري أمام جحافل الغزاة في مدينة بورسعيد الباسلة، وحجم وعمق الدعم العربي غير المسبوق لمصر، لعادت المستعمرة السابقة إلى حالها تحت الحكم الملكي، وربما أسوأ، لكن لحسن التدبير انكسرت المؤامرة الغربية، وذهبت الإمبراطورية البريطانية، تسبقها الفرنسية، إلى صفحات الماضي، وصار الاستقلال الوطني مدعومًا مستندًا إلى استقلال القرار الاقتصادي، ومضت مصر إلى فترة من أزهى فترات تاريخها بجملته، شهدت فيضانا من إنجازات البناء الحقيقي بطول البلاد وعرضها، والتي لا تزال بقاياه الحية شاهدًا أرقى على الإرادة العربية حين تخطط وتصمم وتنفذ، وتحمل في الوقت ذاته الإدانة الكاملة لكل نظام جاء بعده وحاول جهده أن يمحو تلك الصفحات من التاريخ المصري، سواء عبر تصرفات شكلية، مثل إيقاف الاحتفال بعيد النصر 23 كانون الأول/ ديسمبر أو بيع كل منشأة وكل مصنع أقيم في هذا العهد العظيم، عهد الإنجاز المصري الأكبر والأضخم.
***
اليوم، يعود الغرب، وعبر البنك الدولي أيضًا، لمحاولة تدخل جديدة في لبنان، والحجة الظاهرة المعلنة هي الأزمة الاقتصادية القائمة، والمتنامية، عبر تقرير جديد جاء أكثر سوداوية من أي تقرير سابق، عبر رسم كابوس مرعب لمستقبل لبنان كدولة، وإمكانيات استمراره أصلًا، والغريب أن الأرقام التي أعلنها التقرير ليست جديدة، بل معروفة ومتداولة، من نسب التضخم البالغة 186%، كواحد من أعلى معدلات التضخم في العالم، إلى تراجع قيمة العملة المحلية بنسبة 145% منذ بداية العام الحالي 2022، وأخيرًا الانكماش في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، الذي يشهده لبنان منذ العام 2018 والبالغ 37.3%، وأيضًا هو الأعلى في العالم، كل هذه الأرقام ليست جديدة على أي متابع، لكن جمعها مكن واضعي التقرير من الوصول لفرضية لخصها المدير الإقليمي لدائرة المشرق في البنك الدولي جان كريستوف كاريه قائلًا: إن "عمق الأزمة واستمرارها يقوضان قدرة لبنان على النمو، إذ يجري استنفاد رأس المال المادي والبشري والاجتماعي والمؤسسي والبيئي بسرعة وعلى نحو قد يتعذر إصلاحه".
ولمواجهة السؤال البديهي حول الحل المطروح والقائم، باستغلال الاحتياطيات المؤكدة من الغاز الطبيعي في الحقول اللبنانية البحرية، والتي أنجز حزب الله بإرادة صلبة وإيمان وقدرة كاملين مهمة فرضها على العدو قبل الصديق، فإن تقرير البنك الدولي قد قلل من هذه النقطة، عبر التشكيك في عوائد هذه الموارد وتمكن لبنان كدولة من استغلالها بالكفاءة والسرعة المطلوبتين، والتهوين من شأن التدفقات المالية الناتجة عن استغلال الثروات الطبيعية في وقف نزيف الخسائر، بقوله نصًا: "لا تزال الإيرادات المحتملة من النفط والغاز غير مؤكَّدة ويحتاج تحقيقها سنوات، كما أن أصول الدولة لا تساوي سوى جزء بسيط من الخسائر المالية المقدَّرة"!
هكذا حكم البنك الدولي مقدمًا على هذا الحل بالفشل، ورمى بذور التشكيك في قدرة الدولة على تجاوز أزمتها "المفتعلة" الحالية، بفعل الحصار الأميركي والغربي على البلد، والاستنزاف المستمر للموارد والثروات عبر رعاية نخب غربية الهوى والهوية، وبالتالي لم يعد أمام لبنان سوى الركوع استجداء أمام البنك، عله يوافق على وضع خطة إنقاذ مالي عاجل، وضخ المزيد من القروض إلى حيث تلتهمها أصابع الإفساد وأباطرة الثروات الحرام.
الهدف الحقيقي من تقرير البنك الدولي، هو الهدف العربي الأهم والأشرف، المقاومة، التي انطلقت في العام 1982 كرد فعل طبيعي لشعب واجه وحده في جبهة القتال الكيان الصهيوني ومن يقف وراءه، وأُريد له أن يذل بمعاهدة عار جديدة، على شاكلة كامب دافيد ووادي عربة، لكنه أطلق ماردًا كامنًا من أعماق المجهول الشعبي، وفعلًا هو الأنبل والأسمى في وعينا وذاكرتنا وأيامنا، ومع الوقت وبكثير من الدماء الزكية، تحول رد الفعل إلى أهم فاعل يحسب حسابه في معادلات المنطقة ودوائر صنع القرار في قصورها، وبات حزب الله هو الرقم الأصعب، روح إيمانية متجددة، لا تموت، وهي فوق كل شيء، عصية على محاولات الكسر أو حركات التطويع.
ما يريده التقرير فعلًا هو نشر حالة البؤس والإحباط، وتثبيت عنوان قبول الهزيمة على الشارع اللبناني، كحقيقة عليا وأولى، وهو ما يمكن لأي مطّلع عليه من الشعور به فور التمعن في قراءته، إذ يصادر كل إمكانيات الحل، ويحكم بالفشل مقدمًا على أية بادرة لانفجار يراه واقعًا لا محالة، ويهمش كل التجارب الصعبة والأيام المريرة التي واجهت الشعب اللبناني، وأي شعب آخر في العالم في ظروف حصار وحروب عدوانية أميركية وصهيونية مستمرة، ولا تتوقف.
المؤكد هو أن التقرير، رغم أنه يستند إلى أرقام واقعية ومحسوسة، إلا أنه أهمل أهم نقاط قراءة الوضع، السبب الذي أوصل لبنان إلى هذا الحال، والنقطة الأخرى هي افتراض أن الحل الوحيد يستند إلى برنامج يشرف عليه ـ أو يفرضه ـ البنك الدولي، متناسيًا أن كل دولة تدخل فيها لوضع برامج إنعاش مالي أو اقتصادي انتهت إلى واقع أشد بؤسًا مما كانت عليه قبلها، والأمثلة الحاضرة أكثر من أن تعد وتحصى، ولعل سريلانكا هي أحدث المنضمين لنادي ضحايا برامج الإنقاذ الدولية، التي يشرف عليها ذراعا واشنطن الماليين، البنك وصندوق النقد.
أزمة الغرب مع لبنان هي حزب الله، القلب النابض لحركة المقاومة العربية، والمثل الأول لإمكانيات الفعل والقدرة لدى كل إنسان عربي، ووقف مسلسل هذه التجربة الملهمة في حياتنا العربية، حتى على المستوى الشخصي جدًا والمجرد، وإطفاء شعلة الكرامة والبطولة والفداء، التي أشعلها الحزب شمسًا في كبد السماء والمنطقة.
***
أخيرًا.. العربي الجيد بالنسبة للغربي هو العربي المنهوب، والعربي الشرير هو المقاوم، هذه هي المعادلة الصحيحة لفهم المنطق الأميركي والأوروبي في التعامل مع العالمين العربي والإسلامي، ومنطقة الشرق الأوسط بالذات، ليس لديهم نية التنازل السهل أمام أحد، ولا منح الحقوق لأحد، وكل إعلامهم ودعايتهم وجهدهم موجه حصرًا نحو تركيعنا وإذلالنا، واليد العربية التي تقبل السلام منهم هي يد الخيانة والغدر والسقوط الكامل، والتاريخ موجود ويكاد يتميز وينطق من الغيظ، أمام النخب التي تزين لنا القبول بالرؤية الغربية والمصير الغربي.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024