آراء وتحليلات
أوروبا المأزومة.. الحاجات والهواجس
يونس عودة
تحاصر سلسلة من الأزمات والهواجس الكبرى دول الاتحاد الأوروبي، ولا تقتصر الهواجس على المخاوف من الصقيع الذي بدأ يسرع خطاه لا سيّما مع تراجع واردات الغاز الروسي إلى دول القارة التي ارتدت صفة العجوز، وأضافت لها إعلان عجز ساستها عن اجتراح حلول تحاكي هموم ناسها ولو بالحد الذي يمكن أن يحافظ على حد ما من رفاهية تغنت بها أجيال ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولا يتردد أي شخص يمتلك الجرأة من اتهام القبضة الأميركية التي تزداد ضغطًا على رقاب الأوروبيين بأنها وراء مجمل الأزمات.
أكثر ما يقلق الأوروبيين بشكل عام على المستوى البنيوي الاجتماعي، رغم الأزمات الملحة في حاجتها الى الحلول، مسألتان إلى جانب تدني المستوى المعيشي وتقلص حجم سوق العمل وبالتالي الوظائف على أشكالها:
- كيفية ترميم المجتمعات المتهالكة جراء مغادرتها القيم والروابط المتآزرة ما أدى الى تفكك كبير في المجتمع.
- تجديد المجتمعات بعد تراجع الانجاب بشكل مخيف، وبالتالي إعادة تشكيل الوعي الذي تعرض لتشوهات كثيرة بعدما تحولت أوروبا الى متلقٍّ لـ "ثقافة الأمركة" المصممة على التسميم بعناوين كبرى تحفز الغرائز.
اذا كانت هاتان المسألتان تحتاجان الكثير من الوقت والخطط التحفيزية المقنعة على المستويين القصير وطويل المدى، فإن القضايا الحاضرة وتلك الداهمة لا تمتلك ترف الوقت مثل انتظام الدورة الاقتصادية المربكة منذ حلول "كورونا"، وقد ازدادات تفاقمًا خطيرًا بعد الحرب في أوكرانيا، وتحميل اقتصادات أوروبا مزيدًا من الاستنزاف بضغط أميركي، وفي بعض الأحيان تهديدات صريحة بإمكانية استخدام القواعد العسكرية الأميركية المنتشرة في القارة، وهي الى ازدياد.
لا يتوانى المواطن الأوروبي عن التصريح بأن الأجور التي كانت تؤمن مستويات مختلفة من الرفاهية تتآكل بسرعة مع الإعلان الواضح الالتزام بالقوانين جميعها، وهذا ما يمكن أن يلمسه الأجنبي من الشارع إلى المخازن، لكن البرد القارس لا يعالج بالقوانين وإنما بالإجراءات العاجلة، حيث فشلت السلطات بإيجاد البدائل عن السلعة الروسية الأهم وهي الغاز رغم بعض الجهود الخجولة التي قامت بها الجهات المختصة مع دول أخرى منتجة للغاز والنفط مثل دول الخليج والجزائر.
الغريب أن المواطنين ــ أبناء البلد ــ يعمدون الى طمأنة أنفسهم وكأنهم تطبعوا تلقائيًا مع السائد اقتصاديًا وحياتيًا، بحيث يقارن كلّ منهم مستوى المعيشة مع بلدان أوروبية أخرى داخل الاتحاد الجامع من حيث توحيد العملة أولًا، والانفتاح الجغرافي والمواصفات الضرورية للسلع على اختلاف أنواعها، لكن المقلق هو الخوف من انهيار النظام الصحي الذي بدأت ملامحه ترتسم في أفق بعض الدول التي كانت تعتبر سباقة إلى حد كبير من حيث كفاءة الإنتاج والنوعية للكثير من الأدوية العلاجية.
على هذه الخلفيات شهدت ولا تزال دول الاتحاد الأوروبي تظاهرات صاخبة وبعضها صدامي مع ارتفاع التضخم وتردّي ظروف المعيشة، والسبب الرئيسي ليس الخوف من فقدان السلع والأدوية وحسب، وانما التوجس من مستقبل بات غير معلوم بعد أن كان حتى الأمس القريب في دائرة الأمان.
يجاهر الأوروبيون في منتديات قليلة بتحميل السلطات مسؤولية ما آلت إليه أوضاعهم واتهام السلطات بحجب حقيقة ما يحدث في بلادهم، إضافة الى القضايا العالمية ومجافاة الوقائع في الخضوع للسياسات الأميركية التي ورطتهم مؤخرًا في الصراع الأوكراني، وتمويل حروبها في العالم تحت شعارات واهية تبين لهم عدم صدقيتها، ولا سيما ما يتعلق بشعاري الحرية والديمقراطية.
لا يتردد بعض المثقفين في الإعلان بأن المجتمعات الأوروبية خضعت ولا تزال لعملية غسل عقول وقولبة لمنهجية التفكير، بحيث ترسم وسائل الاعلام والكتّاب طرق التفكير بما ينسجم مع أهداف حلف شمال الأطلسي، ومن الصعب جدًا أن تصل إلى حقائق معلوماتية إلا عبر المرور بحاجة السلطة وأهدافها، ومن غير الصحيح أن هناك وجهات نظر مختلفة وانما من يجهد في البحث ويشهد على الحدث بنفسه يمكن أن يشكل وجهة نظر مختلفة ما لم تكن أحكامه مسبقة، وهذا أمر نادر الحدوث. واذا حصل ذلك في منتدى عام يسارع كتبة السلطات الى وصف المحتجين في البلاد الأوروبية بأنهم "بلطجية، فوضويون، عنصريون، متطرفون، الخ.." بسبب فشل السلطة في إيجاد تبرير يعتد به لخطاياها، وبهدف تطويق توسع الحركات التي تعبر عن غالبية السكان في هذا البلد أو ذاك. ولعل التعبير الذي يردده الأوروبيون أمام من يشكون همهم أمامه بأن الشعوب تدجنت وتمت قولبتها من الاعلام السائد وفق منهجية واضحة، ولكن يبقى هناك من يبحث عن الحقائق مقابل زرع أوهام على أنها الحقيقة وحدها مثلما تعمد السلطات إلى تبرير العقوبات على روسيا التي طالما جاهرت بالود تجاه أوروبا ووقفت إلى جانبها في الازمات الصاعقة مثل كارثة "كورونا".
إن وسائل الإعلام الأوروبي كما في الولايات المتحدة الأمريكية، بضغط مباشر من الحكومة تحجب كثيرًا من الأحداث التي تدور حول العالم، لا سيما المسائل المهمة التي تؤثر على حياة الناس. والهدف المأمول هو إبعاد أو تجهيل القضايا التي تؤثر على حياتهم وسلوكهم، والغريب أن كل باحث يحاول أن يعلن حقيقة شهد عليها يمكن أن يشيطن ويتهم بالتبعية، لا بل بالخيانة والعمالة.
هنا يطرح الأوروبيون كمواطنين حقيقة مسألة السيادة والقرارات السيادية مقابل المعوقات البنيوية والمالية والسياسية نحو "أوروبا مستقلة" مع غياب الرغبة للعديد من دول الاتحاد الأوروبي للخروج من الهيمنة الأميركية، رغم التململ الشعبي، وبعض الجهات السياسية، وما يزيد في الأمر تعقيدًا، تنافر حاد بين دول في الاتحاد نفسه، ما يجعل الاتحاد في مهب رياح آتية لا محالة، وربما سيكون الشعار المركزي "الديمقراطية والحرية".
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024