معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

16/12/2018

"ربيع فرنسا": ازمة حكم ونظام

سركيس أبوزيد

نھاية عام سيئة على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. فما كاد يلتقط أنفاسه ويستجمع قواه في مواجھة أسوأ أزمة إقتصادية إجتماعية تُرجمت في الشارع أعمال عنف وتخريب، حتى فاجأه "الإرھاب" بضربة موجعة في ستراسبورغ المدينة الفرنسية الواقعة على الحدود مع ألمانيا. تُعد ستراسبورغ مدينة رمزية، حيث تستضيف البرلمان الأوروبي وسوق عيد الميلاد الأكبر في أوروبا الذي يجذب ما لا يقل عن مليون زائر ما بين نھاية السنة وبداية السنة الجديدة. ولذا، فإن اختيار المكان ربما لم يكن محض صدفة لمن يرغب في إيقاع أكبر عدد ممكن من الضحايا ويرغب في أكبر تغطية إعلامية.

ماكرون تابع تطورات الموقف لحظة بلحظة فترأس اجتماعا للخلية الأمنية في وزارة الداخلية، كما ترأس اجتماعاً لمجلس الدفاع في قصر الإليزيه. وسارعت الحكومة إلى إعلان أنھا رفعت حالة التأھب الأمني إلى الدرجة الأخيرة المسماة "التھيؤ لھجوم طارئ"، فرضت معھا إجراءات رقابة مشددة على الحدود، ورقابة مشدّدة في كل أسواق عيد الميلاد في فرنسا. وكشف وزير الداخلية عن تعبئة إضافية للقوى الأمنية.

لكن، رغم التعبئة التي قامت بھا السلطات الفرنسية، فإن الحكومة تعرضت لانتقادات شديدة بسبب التقصير والعجز الأمني في منع حصول أعمال إرھابية.

وتساءل لوران فوكييه، رئيس حزب "الجمھوريون" اليميني الكلاسيكي : ماذا ننتظر حتى نقضي على الأصولية التي أعلنت الحرب علينا؟

وتذھب مارين لوبن، رئيسة "التجمع الوطني" اليميني المتطرف في الاتجاه نفسه مطالبة بتغيير جذري للسياسة الحكومية إلى أثبتت فشلھا. كماتدعو لوبن، إلى طرد الأشخاص الأجانب المسجلين على لوائح الاتهام و استھداف التنظيمات التي تحمل أفكارا متطرفة.

في نفس الوقت توسعت حركة "السترات الصفراء" على الأرض الفرنسية وانضم إليھا مناصرون من قطاعات مختلفة. وتوسعت لائحة المطالب، فلم تعد اقتصادية ومحصورة بإلغاء الضرائب الجديدة، وإنما صارت سياسية وتصل الى حد المطالبة بحل البرلمان وإجراء إنتخابات مبكرة وإستقالة الرئيس الفرنسي .

كان واضحاً، لمن يريد أن يفتح عينيه، أن حركة "السترات الصفراء" تعكس مزاجاً شعبياً رافضاً للسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي اتبعھا عھد ماكرون منذ البداية. والأمر الثاني أن الرئاسة والحكومة يغلب عليھما طابع التكنوقراطية التي لا تعرف حقيقة مشاكل الناس، لا بل إنھا تنظر إليھا بفوقية. لذلك لم يعد أصحاب "السترات الصفراء" والطلاب وحدھم في الساحة الإحتجاجية الفرنسية، إذ إنضمت إليھم شرائح قطاعية إضافية لتزيد المشھد تعقيدا: القطاع الزراعي، سائقو الشاحنات، سائقو سيارات الإسعاف وغيرھم من أصحاب المطالب الذين يرون أن الضعف الذي ألّم بالحكومة يشكل الفرصة المناسبة لانتزاع شيء ما في مھرجان المطالب المتكاثرة.

حقيقة الأمر أن الفرنسيين حائرون، ويبدون عاجزين عن فھم ما حصل للرئيس إيمانويل ماكرون، الشاب الطموح الذي قبض على الرئاسة وھو تحت سن الأربعين. وجاء ببرنامج إصلاحي جذري يريد بموجبه إحداث تغييرات عميقة في المجتمع الفرنسي. ماكرون أراد أن ينقل فرنسا من عصر إلى عصر. عبر فوق الأحزاب التي داس عليھا. محا الفوارق السياسية التقليدية، حين قدم نفسه خارج الأحزاب. لا يمين ولا يسار. إنه ماكرون الآتي من غير أن يخوض يوماً غمار أي حملة انتخابية أكانت محلية أو تشريعية. ليس خلفه حزب يدعمه ولا تاريخ سياسيا يستند إليه. روّج لنظرية "السلطة العمودية"، حيث القرارات تُتخذ في أعلى سلم الھرم وما على من تحت سوى التنفيذ. واستفاد من الغيبوبة التي ضربت الأحزاب بعد ھزيمتين ماحقتين (الانتخابات الرئاسية والتشريعية).

لكن اليوم، انقلبت الأمور رأسا على عقب. وأخيراً، في بادرة نادرة، اعترف بأنه لم ينجح في مصالحة الفرنسيين مع قادتھم. مشكلة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن طموحاته أكبر من قدراته، يريد أن يكون رجل أوروبا، ومنافس ترامب، والمؤثر في العالم. يريد كذلك أن يغيّر دور الدولة الفرنسية. كان ماكرون يحلم بأن يؤھل فرنسا لدور أكبر في أوروبا. وھو يعرف أن الأدوار في العالم الحالي تحتاج إلى اقتصاد عصري متحرر من أثقال الأفكار القديمة والتقديمات التي تمنع الاقتصاد من النمو والتقدم والمنافسة. يعرف أن على الفرنسيين تجرع أدوية مرة إذا أرادوا اقتصاداً قادراً على التكيف المتواصل واجتذاب الاستثمارات. من ھنا شرع في إجراء بعض الإصلاحات. لكن سرعان ما التصقت بالرئيس الشاب صفة "رئيس الأغنياء". أخذوا عليه تركيز القرار في الإليزيه وعدم إعطاء المساحة الكافية للمؤسسات وللجھد الضروري لإقناع المواطن العادي. اتسعت الھوة بين الرئيس والشارع وانھالت الحملات والاتھامات.

كان ماكرون يحلم بدور أوروبي كبير حين أطلت السترات الصفراء في الشوارع. وكالعادة اختلط غضب أصحاب المطالب بممارسات أصحاب السوابق. الناقمون على الحكومة وضرائبھا ونھجھا. والناقمون على المشروع الأوروبي نفسه وتعليمات بروكسل. المتشددون من اليمين والمتطرفون من اليسار.

أدرك ماكرون متأخراً أن المسألة ليست بھذه البساطة، وأن الاحتجاج له أسبابه، ومنطلقاته الفكرية الآيديولوجية. وأن هذه الاحتجاجات ليست ظاھرة عابرة، بل تكشف عن صراع جوھري يطال نموذج النظام الاقتصادي للبلاد، وكذلك الشرعية الديمقراطية ونطاقھا، فأي قرار سيأخذه وسط الهجمة الإرهابية التي ضربت مدينة ستراسبورغ، فالإيجابية الوحيدة بالنسبة لماكرون الواقع بين مطرقة العنف الباريسي وسندان الإرھاب ، تكمن في أن عملية ستراسبورغ حوّلت أنظار الفرنسيين وإھتمامھم من المطالب والمظاھرات والشكوى من عدم تحقق الرفاھية والعدالة الاجتماعية والضرائبية الى مكان آخر، وأيقظت عندھم ھاجس الأمن والإرھاب كأولوية مطلقة.

فھل ينحو ماكرون الى "الحزم والتشدد" أو الى الحوار والمرونة لاحتواء حركة المعارضة الصفراء؟!

ھل يتجه الى قرار إقالة حكومة إدوار فيليب لامتصاص النقمة والإيحاء بتغيير، أم أن رئيس الوزراء سيسلك طريق الإستقالة في حال إستمرت الأزمة في الشارع؟!
 
ومع هذه الاحتمالات يبرز السؤال: فرنسا الى أين؟

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات