آراء وتحليلات
المقاومة والخنوع.. درس جديد من القاهرة
أحمد فؤاد
"يا إمام الشهادةِ
عهدٌ على عاشقي كبرياء السماوات
في ناظريك.. نقاومُ
نعرفُ أن القتالَ مريرٌ
وأن التوازنَ صعبٌ
وأن حكوماتنا في ركاب العدوِ
ما أنت طائفة
إنما أمة للنهوض".
مظفر النواب
تبدو هذه الفترة الدقيقة، والحرجة، من عمر أمتنا العربية والإسلامية أصعب من أن تخطئها عين واعية، أو يفوتها عقل منتبه. الأزمات تضرب بعنف كل ما أمكنها أن تطوله في عالمنا، اقتصادية واجتماعية وسياسية، على نحو يدهس أية فرصة للحديث عن أمل ما لأي شعب، بل ووصل مدى الأزمة إلى حال أن التشاؤم والإحباط بات سيدًا للتوقعات والسيناريوهات المستقبلية بامتياز، لا يملك الإنسان فيه ترفًا لمجرد تخيل عبور الأزمة، وفقط، مهما بلغت التكلفة أو التضحيات، فضلًا عن الحلم بالحل الجماعي لها.
الأزمة الهيكلية التي تضرب مصر على سبيل المثال، ليست في الواقع جديدة أو مفاجئة. منذ سنوات يحذر كل قلم وطني مصري وعربي من وقت الحساب، حساب انفجار موجة الديون الخارجية الهائلة، وحساب تبديد هذه الأموال على مشروعات لم - ولن - تقدم دولارًا واحدًا من الأموال التي أنفقت عليها، وانبرت شخصيات لمحاولة توضيح مآلات عملية "الإصلاح" تلك، وتوقع الجميع سوى السلطة الحاكمة أن تؤدي إلى زلزال لم تشهد البلد مثيلًا له من قبل، مع حكومة أدمنت الفشل وأبدعت فيه أساليب جديدة غير مطروقة، فأبدعت في هذا الفن أيما إبداع وسقوط.
ولوضع نقاط الأرقام فوق حروف الكلمات، لمحاولة فهم الصورة بشكل كامل، العملة المحلية هي أحد تعبيرات الاقتصاد وتنعكس عليها أداؤه وتوقعات مستقبله، والجنيه المصري فقد في أقل من 10 سنوات أكثر من 77% من قيمته، وهي نسبة بالأساس مروعة، بل ومرشحة للمزيد والمزيد من التراجع والهبوط.
وللمقارنة فقط مع حاكم آخر ينتمي للمدرسة ذاتها، مدرسة كامب دايفيد الملعونة، فقد شهدت سنوات ثلاثون، كان على رأسها المخلوع مبارك، هبوطًا وحشيًا في قيمة الجنيه أمام العملات العالمية، والدولار خصوصًا. لقد شهد عهده غير السعيد هبوطًا مدويًا في قيمة الجنية المصري، بإجمالي نسبة 90% أمام الدولار، لكن على مدى ثلاثة عقود تصبح النسبة السنوية للهبوط نحو 3% فقط، بينما ترتفع في الحالة الحالية المنظورة إلى 7.7 سنويًا!
الأغرب من المسيرة المتشابهة لكل حاكم جاء مع أو بعد كامب دايفيد، أن التراجع والمصاعب المعيشية كانت تأتي بعد تنازلات أكبر من أن توصف بالخيانة فقط. عقب مبادرة الاستسلام المصري أمام العدو الصهيوني في 1977، جاء أول دخول لصندوق النقد الدولي إلى مصر، مشترطًا وصفته المدمرة بداعي إصلاح اقتصاد ما بعد الحرب، وكانت النتيجة المباشرة اندلاع ثورة الخبز، في مثل هذه الأيام 18 و19 كانون الثاني يناير 1977، لتتأجل المحاولة الأولى من عملية صيد الهدف الثمين.
وفي عهد مبارك الطويل، جاء الدخول الأهم لصندوق النقد الدولي في نهاية الثمانينيات، مع العجز الكامل في الموازنة العامة للدولة، والحاجة إلى تقسيط ومد آجال الديون القائمة واستدانة جديدة تفتح الباب أمام بقاء النظام وحياته، وجاء الاتفاق الجديد مقابل اشتراك الجيش المصري في حرب تحرير الكويت، حرب الخليج الثانية، ما أسقط نصف الديون الخارجية، مقابل الدور المصري المركزي في الحشد والحرب ضد دولة عربية شقيقة.
وكانت شروط صندوق النقد حاضرة، وكل صفحة فيها مليئة بالألم والعرق والدم، من بيع شركات القطاع العام، التي كانت تمثل ركيزة صناعية جبارة، تستطيع بقليل من التمويل والجهد وكفاءة الإدارة أن تستعيد دورها المرسوم في قيادة الاقتصاد الوطني، وجاء تدميرها وتقطيع خطوط إنتاجها وتصفية أعمالها وبيع أراضيها ومنشآتها ثمنًا فادحًا لأخطاء النظام الحاكم، وثمنًا آخر للحصول على صك الرضا الأميركي.
المثير في قصة مصر مع الاستدراج الأميركي لها، أن أموال وفوائض دول الخليج دائمًا ما كانت تلعب دورًا حيويًا في التطويع والإذلال، وبالتالي إجبار البلد على الاتجاه لواشنطن، حيث التقارير الوردية الصادرة من صندوق النقد الدولي كفيلة وحدها بضخ الموارد العربية إلى دولة عربية على شفا الانهيار.
لو كان الشخص يستطيع أن يلخص مسيرة مصر كلها، تحت الرعاية الأميركية، لجاز له، ولم يكن شططًا في الحكم والقراءة، أن يقول إنها التبعية الذليلة، وفي أقبح صورها، فقدان كل ما يمكن الحرص عليه وطنيًا وإقليميًا، بدفع من أزمات تصنعها الخلطة السحرية بين شروط غربية قائمة وفشل إداري حكومي مزمن، وأشقاء يدفعون المزيد من الدول إلى الحظيرة الأميركية، مجردين من كل أسلحتهم، مجبرين على أي قرار وكل قرار يتخذه أسيادهم الجدد.
خلال السنوات الماضية، 8 سنوات، استدانت مصر 4 أضعاف كل ما استدانته في تاريخها. الحجة الحكومية البليدة تقول إنها لبناء مدن جديدة وطرق ومشروعات نقل وخلافه. في مصر خلال الثماني سنوات لم يفتتح مصنع واحد موجه للتصدير، وفي عز أزمة "كورونا" القاتلة، كان حال المستشفيات الحكومية لا يسر عدوًا ولا حبيبًا، لم يجر إضافة سرير واحد لمستشفى.
الأنكد من كل هذا أن المشروعات التي تبنى بقروض أجنبية ضخمة، لا تعدو كونها سرابًا في صحارى جرداء، لن يعرف المواطن لها طريقًا من الأصل، في مقابل برج واحد يبنى بالعاصمة الإدارة الجديدة، التي لم يعثروا لها على اسم حتى الآن! ويتكلف ما يفوق 3 مليارات دولار، وفقًا للشركة الصينية المشرفة على أعمال البناء، فإن عملاقًا آخر يجاور النيل هو فندق النيل هيلتون، أحد أفخم فنادق القاهرة ويقع في أكثر أماكنها تميزًا وجلالًا، معروض أمام المستثمرين الجدد بنحو 320 مليون دولار فقط.
والواقع كله يقول إن الإعلام الناطق بلسان الغرب وهواه قد وصل إلى مدى يعجز معه العقل عن التفسير المنطقي، واختلطت أهدافه بمطالبات مشغليه، إلى الدرجة التي غيبت عن حديثه، مرتفع النبرة والحرارة، أي غطاء وطني وأي يقين ثابت، وفي سعيه الدؤوب لتحقيق أغراض الطغمة المرتبطة بالغرب عضويًا وفكريًا وماديًا، فإنه قطع الخيط الأخير الفاصل بين الأخلاق والمصلحة، والحقيقة الوحيدة الواضحة في مسلسل الاستهداف الجديد أن واقع لبنان والمنطقة ليس بهذه البساطة المخلة، ومن الصعب أن تكون كذلك.
في مرحلة الحيرة التاريخية التي تسيطر على أفعال القوى الإقليمية والدولية، فإن طرح الرؤية الأميركية للحل بات أمرًا واقعًا على لسان الأطراف المحلية المرتهنة، في تكرار ساذج لفرضية الخيانة الكاملة، التي أطلقها الرئيس المصري الأسبق السادات، بأن 99% من أوراق اللعبة في يد أميركا، وهو اتجاه نرى اليوم آثاره المدمرة على مصر العربية، التي أضاعت كل قواها، واستنزفت جميع مواردها وإمكانياتها، في سبيل هذا الرضا الأميركي، وفي النهاية لم تجد إلا صحارى الضياع حيث مهلكة مدمرة ومذبحة مدمرة لا يفصلها عنها إلا الوقت، سواء بانهيار اقتصادي داخلي شامل، أو بالتفريط في منابع النيل، وقبلها التنازل عن الدور والمكانة مقابل ريالات الخليج.
..
لم يذهب سماحة السيد حسن نصر الله بعيدًا حين أشار إلى تكلفة المقاومة مقابل تكلفة الرضوخ للأميركي، والأمثلة لا تتوقف عند مصر وحدها، بل تتعداها إلى أية دولة آمنت أن الحل الأميركي قد يضمن لها مستقبلًا من نوع ما. وفي النهاية الدرس متاح للقراءة أمام الجميع، الويلات المتحدة –ليس خطئاً إملائيًا- لن تحمل إلى العالم العربي شيئاً سوى الموت والخراب والدمار.
المقاومة أولًا وأخيرًا كانت إيمانًا يخلق الأمل، ويبث في المجتمع كله فكرة الحركة ويجسد لحظة يقظة الإرادة، في أحلك الظروف، وحين تعز السبل، كانت المقاومة راية هدى قادرة على كسر كل معادلات القوة والفعل، مهما بلغ طغيانها ومهما بدا من هيمنتها وسطوتها، وكأنها تطلق المستحيل نفسه من أحشاء الواقع وآلامه، وتتجاوز به -وعبره- كل قدرة إنسانية على الحساب ومنطقة الحوادث والتطورات في أوقات الصراعات الكبرى.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024