آراء وتحليلات
حربٌ شاملةٌ
أحمد فؤاد
يعد الفهم المحرك الأول للفعل الإنساني القادر والسليم، والشرط الأساس لعبور كل منحنيات الطرق وتجاوز عوائقها، بالقدر الأقل من التضحيات والأكثر ضمانًا لمصلحة الحاضر وضرورات المستقبل. لا يمكن تخيل رؤية خاطئة أو حتى ناقصة تستطيع حمل الإنسان إلى طريق واتجاه صحيحين، وجلّ ما يملكه إنسان فقد القدر اللازم من فهم واقعه هو السقوط، مهما بدا لغيره أنه يتحرك ومهما تصور أنه يضحي أو يتألم.
الواقع أننا في العالم العربي وقعنا في أزمة فهم مزدوج، فمن جهة فشلنا في الوعي بواقعنا وما ترسب فيه من عقد وتجارب، بل ومنح بعض الناس تقديسًا وتقديرًا لا يناسب ما قدموه فعلًا، وهو واحد من عقبات التطور بما يفرضه من وصاية الأموات على الأحياء، ومن فرض تجارب أثبتت المرة بعد المرة فشلها في المجابهة، ومن جهة ثانية فشلنا في قراءة عدونا والتعامل مع خططه، وفهم طبيعة نشأته وظروف تكوينه، والتي هي بدورها تجربته التاريخية التي تحكم تصرفاته.
في خطاب الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله الأخير، وضع نقاطًا ساخنة على حروف وعي كاد يهتز تحت وطأة الحرب الإعلامية العنيفة الجارية على المقاومة وعلى كل قول يرد الأزمة إلى أصلها الصريح، الأميركي، وقال سماحة السيد نصًا: "من المؤسف أن البعض يتحدث عن عدم وجود حصار، فالحصار لا يكون فقط بوضع بارجة قبالة الشواطئ اللبنانية، بل يكفي سلوك الادارة الأميركية مع السلطة اللبنانية".
وحول رهان بعض المرجفين ومثقفي السفارات وأصحاب الهوى والهوية الغربية، قال السيد بحسم إن "الوضع في المنطقة متجه نحو مزيد من التوتر، فلا تسويات في المنطقة ولا مشاهد سلام، وهذا كله سينعكس على منطقتنا"، وبالطبع فإن وجود حكومة مجرمة على رأس الكيان أدعى لإعادة التفكير في فكرة اتجاه الأميركي إلى التهدئة من أساسها، وضبط التفكير على حقيقة أنه كلما زادت أزمات الولايات المتحدة والغرب عمومًا فإنها لن تفكر في حل إلا على جثثنا.
نشأت الولايات المتحدة من رحم الحرب، واستمرت بالحرب، تمددت شرقًا وغربًا بالحرب، وحملتها الأساطيل الحربية إلى ما بعد المحيطات الواسعة، لتشعل حروبًا لم تنتهِ للسيطرة على العالم وموارده، ولتوسيع سوقها الضخم، وهي إن كانت شكلًا مثل كل إمبراطورية قديمة سيطرت وتنفذت وامتدت، إلا أنها كأمة تتغذى على الحروب والدمار، وتجد فيها فرصًا لإعادة النهب وفرضه فرضًا على الجميع.
بعد الحرب العالمية الأولى ومجازرها الهائلة، وبينما كانت أوروبا كلها تلعق جراحها المفتوحة، وتحاول تضميد جروحها البالغة، كان الأميركي يفكر في الحرب التالية، والتي بدت وقتذاك قادمة حتمًا، مع عدم حسم اتفاقية "فرساي" للقضية الملحة للجميع، وهي ضرورة تفكيك ألمانيا كقوة صاعدة فتية في قلب القارة العجوز، ومع التوسع الرهيب لليابان الإمبراطورية، وحين وقت بالفعل الحرب العالمية الثانية، فإن الطرف الذي كان مستعدًا أكثر من –وقبل- الجميع كانت الولايات المتحدة، التي اختارت في البداية أن تستنزف أعداءها اقتصاديًا ودعائيًا، وأن تترك الإمبراطوريات القديمة في بريطانيا وفرنسا تدفع وحدها ثمن الاندفاعة الأولى الرهيبة لدول المحور، ثم تتدخل في مرحلة تالية، تكون فيها قد هيأت الأرضية المناسبة لتقليل تكاليفها وحصر خسائرها عند حد معين، والخروج بعد الحرب بالغنيمة الكبرى والصورة المعنوية الهائلة لمجد وكبرياء المنتصر.
وخلال فترة ما بين الحربين، طورت الولايات المتحدة نظريات عسكرية جديدة، يرتعد لهولها الشيطان، من حيث تحويل قصف المدن والمدنيين إلى غاية بحد ذاتها، وانتشرت نظرية حملة القصف الجوي الإستراتيجي الشامل على دول ومدن العدو، لتحقيق جملة أهداف من ورائها، فهي أولًا تخصم من قدرة العدو على الحشد أو استعواض خسائره في جبهات القتال، وهي ثانيًا تكسر إرادة القتال لدى الشعب المستهدف وتبدد قدراته على الصمود لأطول وقت ممكن في حالة من التعبئة والتأهب، وهي ثالثًا تضرب عميقًا عند أساس العلاقة بين الأنظمة وشعوبها، إذ إنها تبث الشك في قدرة الحكومة على حماية أرضها ومدنها ومواطنيها، وهي قبل كل شيء تتوازى مع حملات دعائية جبارة، تلغي لدى العدو الفارق بين النصر والهزيمة بفعل التدمير الهائل الذي تنشره بطول البلد وعرضه، ومع حرق المدن وهدم البيوت، فهي تدمر عالم الإنسان العادي، وتحوله من مواطن إلى لاجئ، يحلم بخلاصه الفردي المتمثل في وقف الحرب، ولا يهمه حينذاك موقف الوطن أو مصيره.
ويمكن بتلخيص غير مخل أن نجزم أن السياسة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، والقائمة منذ الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم، تؤدي إلى تحقيق هدفين بالتوازي، الهدف الأول هو تواجد حاكم فى المراكز المهمة استراتيجيًا في المنطقة العربية لدعم مركزها الأول المتمثل في الكيان الصهيوني، وثانيًا نصيب الأسد في ثرواتها الهائلة نفطيا ومواردها الغنية، بالسرقة العلنية كما يحدث في سوريا، أو بالاتفاقات مع حكام العار، كما يحدث في الخليج، الكل تحت الحصار والكل مهدد، ولا عزيز في المنطقة بالنسبة للأميركي سوى الكيان.
..
دون المعرفة الحقيقية بواقع الحال وبطبيعة الصراع، فإن كل شخص يستطيع أن يتخيل ما يشاء كما يشاء، دون أدنى ارتباط بين رؤيته الناقصة وبين تطورات الحوادث وعواصف الصدام، ودون أن يفقد كل قدرة على الاستجابة السليمة للتحديات القائمة، أو التهديدات المحتملة، لكن الفعل الواعي وليس القول ــ مهما بلغ مداه ــ هو صانع الحقائق الأول والوحيد.
وضع السيد التحليل الأدق للوضع الحالي، وبكلمات حاسمة قطعت كل مناورة أو تلكؤ في التعاطي معها، وفي الوقت ذاته حمل إلى القلوب الأمل بنصر إلهي يكسر هذا التجبر والعلو والإفساد في الأرض، قال سيد الوعد الصادق: "لا يجوز لنا أن نيأس على الرغم من أنَّ هناك من محاولات إشاعة اليأس في البلد، وهذا أمر خطير جدًا وأهم شيء هو الأمل وعلى الجميع تحمل المسؤولية".
هي قضية أمانة ومسؤولية إذًا، أمام الله والناس، فالصراخ الجماعي يدوي في كل دولة عربية، وأجراس الإنذار تقرع عالية منذرة بأخطار مرعبة على المجتمعات يصعب التحكم فيها أو محاولات كتمانها بِعَصا الأمن والسيطرة، والأخطر أنه يستحيل التنبؤ بمداها أو استشراف ما بعدها، وفي حال عجز الدول والحكومات عن الحركة بعيدًا عن هذا المصير المميت، فإن السيناريوهات مفتوحة على دمار أكيد وانفجار داخلي قادم.
فهل يسمع أحد النصيحة المخلصة من سيد الوعد الصادق، قبل أن تنهار القصور والمعابد على رؤوس ساكنيها وسدنتها؟ هذا هو السؤال الأول في الاختبار.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024