آراء وتحليلات
حول غياب دولة القانون في لبنان
محمد علي جعفر
بات فساد السلطة في لبنان موضوعاً يتصدر حديث الشارع اللبناني بكافة أطيافه. ويبدو أن عملية مكافحة الفساد نجحت في استدراج بعض المُقدسات اللبنانية الى النقاش، والتي كان قد حجبها العرف السياسي اللبناني. من الفساد داخل الجهاز القضائي الى الهندسات المالية التي تتعارض مع مصلحة الدولة، والتي يقوم بها مصرف لبنان. مواضيع باتت مطروحة اليوم، وبشكل معاكسِ تماماً لما هو معهود.
على الصعيد القانوني، لم يشهد لبنان في تاريخه معركة داخل الجسم القضائي كالتي يشهدها اليوم، والتي يُقال إنها ترتبط بقرار اتُخذ لإصلاح الجهاز القضائي. منذ فترة قصيرة أوقف وزير العدل بناءً على اقتراح مجلس هيئة التفتيش القضائي عدداً من المساعدين القضائيين والقضاة وأحالهم على المجلس التأديبي القضائي. المسألة تتعلق بشُبهات فساد وتقاضي رشى وإطلاق سراح متورطين كبار. عادة يتم التروي في الأمور الخاصة بالقضاء، حيث يجب أن تُراعى هيبة السلطة القضائية ومصداقيتها. لكن يبدو أن معلومات مجلس هيئة التفتيش القضائي دقيقة والقرار جدي.
فيما يخص السياسة المالية للدولة والعلاقة غير الطبيعية بين مصرف لبنان والحكومة، جاء المؤتمر الصحافي الذي عقده الخميس الماضي وزير الاقتصاد والتجارة منصور بطيش تحت عنوان "إعادة الانتظام القانوني الى العلاقة بين مصرف لبنان والحكومة" ليُفجر النقاش حول سوء الإدارة المالية لمصرف لبنان وليُبرز فظاعة الهندسات المالية التي أجراها المصرف والتي فضحتها الصحف اللبنانية سابقاً، دون أن تتحرك الدولة حينها (يمكن مراجعة مقال "حقيقة الهندسة المالية: من يحاسب حاكم مصرف لبنان؟" في صحيفة الأخبار). بالإضافة الى ذلك، تتحدث الأوساط المتابعة لطلب رئيس الجمهورية العماد ميشال عون مساءلة حاكم المصرف أمام مجلس الوزراء، عن وجود مخالفات قانونية تتعلق بعدم اتباع الحاكم أصول العلاقة مع الحكومة والتي يجب أن تتم من خلال نصوص قانونية، وصولاً الى محاولته الأخيرة تحميل القطاع العام مسؤولية العجز المالي للدولة ما يُهدد المصالح العامة!
العارفون بما تعنيه إدارة الدولة وتحديداً إدارة القطاع العام، يُدركون أن حاكم مصرف لبنان يخالف المصلحة الوطنية عبر وقوفه الى جانب مصالح رؤساء الأموال على حساب مصالح الدولة والمواطنين. سعيه الحثيث منذ فترة الى الترويج لضرورة تقليص حجم القطاع العام، اعتماداً على مقاربته الخاطئة حول ارتفاع حجم القطاع كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، ليس إلا سوء استفادة من الأرقام والإحصاءات. وبدا واضحاً أنه يريد تحميل القطاع العام مسؤولية العجز للتعمية على كلفة خدمة الدين على الخزينة، بهدف حماية مصالح خاصة تعود للبنوك تحديداً والتي ترفض حتى اليوم المشاركة في تحمُّل بعض كلفة عملية الإصلاح المالي.
إذاً، من القضايا القانونية الخاصة بالجهاز القضائي الى القضايا المالية العالقة بين مصرف لبنان ووزارتي المال والاقتصاد، يدفع اللبنانيون ثمن التجاذبات السياسية. اليوم، وصلت الأمور الى مرحلة يسعى فيها الجميع للتنصل من المسؤولية. وحدهم اولئك الذين كانوا بعيدين عن سلوك السلطة خلال السنوات الماضية، يمكنهم الحديث اليوم بثقة. أما البقية، فستستدرجهم الأحداث المتسارعة الى محكمة الفاسدين، حيث لم يعد هناك شيءٌ يمكن إخفاؤه.
هو لبنان، الدولة التي تحكمها "البازارات" والعلاقات الشخصية بين أركان السلطة، بدأ يشق طريقه نحو دولة القانون التي يحتاجها لبنان واللبنانيون. هي الدولة التي تُعطي أهمية كبرى لدور الجهاز القضائي في أدائها، وتقوم على رسم حدود الحكم وممارسة السلطة. فيها تُشارك السلطة التشريعية (مجلس النواب) في سن القوانين، وهكذا يكون المواطنون جزءاً من عملية بلورة القوانين. على مر السنوات كانت الأمور في لبنان مختلفة. بحسب طبيعة النظام السياسي والإقتصادي اللبناني، والذي رسخته سلطة الإستزلام السياسي خلال سنوات، لا تشبه الدولة اللبنانية دولة القانون، بل تُعتبر دولة (نيو ـ باتريمونيالية) تقوم على شخصنة السلطة على حساب مؤسسات الدولة، التي باتت تُدار بمنطق الإستزلام السياسي حيث يُجيِّر أهل السلطة موارد الدولة والمواطنين (المصالح لعامة) لمنافع خاصة. وعلى أساس ذلك كانت توضع سياسات الدولة.
اليوم، ليس على أحد من اللبنانيين أن يُصدق أن المشكلة في لبنان تكمن في افلاس الدولة أو عجزها. المشكلة تكمن في الإدارة الإستنسابية لمصالح المواطنين وأموال الدولة وشرعنة ما يناسب النخبة الحاكمة على حساب المواطن. الحل يبدأ من تطبيق مفهوم دولة القانون؟!
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024