آراء وتحليلات
الجذور التاريخية للأزمة المالية والإقتصادية اللبنانية
محمد علي جعفر
يُشير خبراء الى أن مشكلة السياسات المالية والإقتصادية في لبنان، تعود لربع قرن. ويربطون ذلك بالسياسات النقدية التي جاء بها حاكم مصرف لبنان الحالي رياض سلامة. ولعل العودة لحقبة سلامة والإضاءة على التوجهات التي جاء بها مصرف لبنان فيما يخص السياسة النقدية، أمر لا يمكن فصله عن خيارات حكومات ما بعد الطائف، أو ما يمكن الإصطلاح عليه بـ "الحريرية الإقتصادية". لكن حقائق التجربة اللبنانية والخيارات التي قامت بها الدولة منذ نشوء دولة لبنان عام 1920 مروراً بمرحلة حكم الرئيس فؤاد شهاب وصولاُ الى تاريخ اليوم، تُشير الى أن لبنان هو أسير عقلية موروثة تسبق سياسات مصرف لبنان، بل تُثبت أن السياسات النقدية لمصرف لبنان هي أحد تجليات هذه العقلية. فما هي الجذور التاريخية للأزمة المالية والإقتصادية اللبنانية؟
على مر السنوات تقودنا التجربة للعودة الى الجذور التاريخية للأزمة المالية والإقتصادية اللبنانية. هي أزمة "عقل السلطة الحاكمة" والتي تُدير مفاصل الدولة. ولأنه لا يمكن الحديث عن الدولة دون الحديث عن خياراتها الإقتصادية، يمكن القول أن الخيارات الإقتصادية هي التوجهات التي تُعبر عن العقل الذي يحكم هذه الدولة.
يبدو واضحاً طغيان النموذج الليبرالي على التوجهات الإقتصادية والمالية للدولة اللبنانية. ومنذ العام 1950 تُعبر هذه التوجهات عن مصالح النخبة المسيطرة على الحكم، وهو ما يعني أن هذه السياسات لا تُعبر عن مصالح المواطن اللبناني، إذا لم تكن تتناقض مع مصالحه، خصوصاً أن طبيعة النظام اللبناني قائمة كما سبق وأشرنا على الإستزلام السياسي وتجيير منافع الدولة لصالح النخبة الحاكمة. ولعل العقلية الموروثة فيما يخص الخيارات الإقتصادية والمالية للدولة والقائمة على محاربة تدخل الدولة في الإقتصاد (على سبيل المثال: تغييب دور الدولة الرقابة..، تغييب الحوكمة الرشيدة..) تَرافق مع التوجه العالمي لسياسات الإقتصاد الحر والإنفتاح على العالم. هذه التوجهات والتي باتت اليوم حقائق تاريخية، يمكن أنها شكلت سياسات مشابهة لما اعتمدته بعض الدول التي لحقت النموذج الليبرالي، لكن الفارق أن هذه الدول مارست التخطيط للإقتصاد بعد أن وضعت مصالح الدولة الإقتصادية وحددت على أساسها خياراتها الإستراتيجية! الأمر الذي غاب وما زال غائباً عن لبنان! مارست النخبة الحاكمة توجهات تدعم مصالحها، فكانت دوماً خيارات الدولة تساوي خيارات رجال الأعمال وتوجهات المصارف.
هذه العقلية استمرت لتكون أصلاً مرجعياً في قرارات أهل الحكم، لذلك تماشت هذه السياسات وتماهت مع خيارات لبنان خلال تسعينات القرن الماضي، والتي واكبت منطقة تعيش في عالم ما بعد الإتحاد السوفياتي وبدأت تلحق بتوجهات "الغرب الجديد"! حتى باتت هذه السياسات هي المصلحة للبنان، وكانت وما تزال مشكلات الإقتصاد تجد لها مبراراتها عند منظري هذه السياسات، بناءاً لنظرية إدارة السوق للإقتصاد، حيث البطالة أمر طبيعي وغلاء المعيشة أمر طبيعي و..!
اليوم تُعتبر السياسات النقدية لمصرف لبنان هي المشكلة. ذلك صحيح، لأن اقتصاد الدولة مرهون للسياسات النقدية لمصرف لبنان وهو ما يُعارض حتماً مصلحة الدولة والمواطن، حيث يجب أن تخدم السياسات النقدية مصلحة الإقتصاد. الواقع مُزري للدولة حيث لا فرص عمل ولا استثمارات، وأغلب السلع الإستهلاكية مستوردة. بحسب الوزير السابق شربل نحاس، فإن الواردات في العام 2018 بلغت 20 مليار دولار، مقابل صادرات بلغت فقط 3 مليارات دولار، ما يعني وجود عجز تجاري يساوي 17 مليار دولار (يمكن مراجعة مقال "الاقتصاد في سجن سياسات مصرف لبنان" في جريدة الأخبار لمزيد من التفاصيل والأرقام). إذاً الواقع الحالي يعني أن لبنان يعيش على الهندسات المالية للمصرف المركزي والتي هي جزء من السياسات التاريخية التي أشرنا لها. هندسات تطبخها الصالونات المُغلقة للسياسيين وأصحاب المصرف، يُديرها بحسب ما يبدو مصرف لبنان بشخص حاكمه.
في لبنان تتفاقم المشكلة والتي هي ليست بجديدة. لكن الفارق اليوم أنها وصلت الى حد الإنفجار. لا نمو ولا تطوير ولا تنمية. تغيب عن لبنان كل المفاهيم والمصطلحات التي تتعلق بمستقبل الدولة والمواطن. وتطغى مصطلحات الفساد والإستزلام والمحسوبية والتي باتت سمات الدولة اللبنانية.
يحتاج لبنان الى قراءة مغايرة لواقع الدولة اللبنانية. يحتاج لبنان لغيارى قادرين على الخروج من منطق العقلية الموروثة لأهل السلطة والحكم والتي تُعبر بحد ذاتها عن الجذور التاريخية للأزمة اللبنانية لا سيما الإقتصادية والمالية والتي تنعكس بطبيعة الحال على الصُعد الأخرى. يحتاج لبنان الى القيم والمفاهيم الحقيقية لبناء الدولة. فمتى تُصبح مصلحة الدولة والمواطن أهم من مصلحة النخبة الحاكمة؟ يحصل ذلك عندما تتغير العقلية الحاكمة والتي تُعبر عن المشكلة الجذرية الموروثة!
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024