آراء وتحليلات
التحوّلات الكبرى في خطاب السيد نصر الله: التجربة البنائية والتفوّق في الردع
محمد أ. الحسيني
جاءت الكلمة التي ألقاها الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله لمناسبة الذكرى الثالثة والعشرين للتحرير بمثابة خطاب التحوّلات الكبرى. ولطالما تميّزت خطاباته بالبعد الاستراتيجي لأي مستجدّ، فلا يأتي الحدث - في قراءة السيد نصر الله - منقطعاً عن الارتباط بما سبق ومؤسساً لما سيلي، وعلى هذا الأساس يمكن تلمّس مجموعة من النقاط الاستراتيجية التي تضمنها الخطاب وصولاً إلى إطلاق الموقف الذي أرسى ندّية التموضع على طرفي المواجهة بين المقاومة والكيان الصهيوني؛ فبعد أن جاء زمن الانتصارت وولّى زمن الهزائم، جاء زمن التهديد بالتهديد، والاعتداء بالردّ والعقاب، ليس برفع سقف التصعيد الإعلامي بل بالمفردات الميدانية التي يفهمها العدو وخبرها على مدى سني المواجهة وواقعات الهزيمة على يد حزب الله.
البناء على التجربة للأجيال
أحد التحوّلات التي أشار إليها السيد نصر الله لم تكمن في تقييم حصيلة مسار المواجهة الذي بدأ قبل خمسة وسبعين عاماً على أرض فلسطين وامتداداتها اللاحقة على أرض لبنان ثم على أراضي العرب المحتلة، بل في توثيق التجربة والبناء عليها بالنسبة "للأجيال الحاضرة من الشباب والشابات" ممن دخلوا العقد الثالث من العمر، الذين كانوا صغاراً حين تحقّق التحرير في العام 2000، أو وُلدوا في العام نفسه، وهؤلاء لم يشهدوا واقع الاحتلال منذ العام 1978 وما بعده مع ما رافقه من قتل وتهجير واعتقال، ولم يعايشوا أهوال الحرب الداخلية مع ما حملته من تقسيم واختطاف ومعارك دامية، كما لم يعيشوا تجربة المقاومة منذ بداياتها مع الطلقات الأولى، وما كابدته من عزلة وحصار وقلّة العدد والعدّة، ولم يواكبوا تراكم التضحيات من شهداء وجرحى وأسرى الذي أفضى إلى تحقيق إنجازات فريدة، شكّلت ميدان تجربة تخالف القواعد المنطقية لحسابات الكمّ والنوع، ولا تتوافق مع تقدير تكافؤ القوى ومعادلات الانتصار والهزيمة، و"هذه التجربة يجب أن يُبنى عليها للحاضر وللمستقبل".
أما ثاني التحوّلات فتتمثّل في البناء على الموقف، فلم نعتد السيد نصر الله – وهو الرائد في الحرب النفسية – يطلق تصريحات للاستهلاك الإعلامي. هو يبني دعائم القوة الناعمة التي يستخدمها على وقائع لا يستطيع أحد إنكارها من الحليف والصديق أو الخصم والعدو، وخصوصاً من هم في مواقع القرار والتأثير داخل الكيان الصهيوني، ثم الشياع العام لدى جمهور المستوطنين. وهذا البناء هو الذي يدفع السيد نصر الله في كل محطة إلى إطلاق الموقف الذي يتناسب مع المرحلة وأفقها القريب أو البعيد، ما يعطي لمعادلة القوة صلابة أرستها المقاومة الإسلامية في إطار المواجهة ضد المحور الأمريكي – الإسرائيلي، ويقابلها هشاشة ما يسمى "قوة الردع" وتآكلها لدى الاحتلال.
شواهد القوة
وهناك العديد من الشواهد في هذا الإطار، وأهمها:
• منذ العام 2006 وحتى اليوم (17 عاماً) لم تجرؤ "إسرائيل" على شنّ أي حرب على لبنان، وفي المقابل تكرّست حالة الأمن والأمان لدى عموم المجتمع اللبناني، وترسّخت معادلة الشعب والجيش والمقاومة، وتمظهرت في الروح المعنوية العالية والجرأة الكبيرة على التقابل في المواجهة مع جنود العدو بفارق سنتيمترات قليلة على طرفي الحدود اللبنانية – الفلسطينية، وكل ذلك لاطمئنان مجتمع المقاومة من أن أي فعل عدواني صهيوني سيُقابل بردّ حاسم من قبل المقاومة، وهو ما حصل فعلياً في ردّ المقاومة على اعتداءات محدودة ارتكبها العدو في محطات قليلة.
• منح لبنان الدولة والمؤسسات القوة في الحضور على المسرح الدولي، وبرز ذلك بشكل فعليّ في مفاوضات الترسيم البحري، وصمود الموقف اللبناني الرسمي أمام التهديدات والضغوطات الهائلة التي مارستها واشنطن لترجيح الكفّة لمصلحة الكيان الصهيوني، وأخفقت في ذلك ليتمكّن لبنان في النهاية من انتزاع حقوقه كاملة في حدوده المائية، وإثبات حقّه الطبيعي في ثرواته النفطية وفي التنقيب والاستخراج والاستثمار وفق شروطه السيادية.
• ازدياد قوة حزب الله والمقاومة في حركة الوعي لدى الشعب اللبناني والشعوب العربية والإسلامية بشكل عام، بناءً على محطتي التحرير وانتصار العام 2006 بالدرجة الأولى، وتالياً لصوابية المواقف التي اتخذتها قيادة الحزب والمقاومة إزاء الملفات والامتحانات الكبرى التي عصفت في المنطقة، وأبرزها الموقف من الحرب على اليمن والحرب الكونية على سوريا، وانتصار المقاومة في الحرب على الإرهاب التكفيري داخل سوريا، وكذلك في لبنان إلى جانب الجيش اللبناني، ممّا وفّر مظلّة حماية حقيقية من المدّ الداعشي الذي كان يهدّد باستباحة لبنان وتحويله إلى إمارة داعشية.
• تعاظم حالة الخوف والشك في قدرة الكيان الصهيوني على الحفاظ على الإستقرار وإمكانية الاستمرار والبقاء، فقد ألحقت المقاومة بالعدو الهزائم في كلّ الحروب التي شنّها على لبنان، واضطر إلى الاندحار في العام 2000 مرغماً دون أي مكاسب سياسية أو عسكرية، وجر أذيال الخيبة والانكسار في العام 2006، ليواجه مقاومة فلسطينية في الداخل نجحت في إفشال كل حملاته العدوانية على قطاع غزة، وهو يواجه اليوم تنامياً ملفتاً في الفعل المقاوم داخل مناطق الضفة الغربية وحتى في الأراضي المحتلة عام 1948، وهكذا وجد الكيان الصهيوني نفسه بين فكّي كماشة لبنانية – فلسطينية، مع فقدانه زمام المبادرة والقدرة على الحسم العسكري، ليقع في مآزق الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
• ركون القوى الكبرى إلى واقعية انكسار حالة التفوّق والتسليم بعدم إمكانية القضاء على المقاومة، ولا يقتصر هذا الأمر على الدائرة المحصورة بالجبهة اللبنانية – الفلسطينية، بل يشمل مختلف الجبهات التي تنضوي تحت مظلّة محور المقاومة من إيران واليمن فالعراق وسوريا وصولاً إلى لبنان وفلسطين، وليست التحوّلات التي تشهدها المنطقة على صعيد المصالحات العربية - العربية والاتفاق الإيراني - السعودي، والانعطاف نحو الشرق باتجاه الصين وروسيا سوى ترجمة لانكسار الهيمنة الأمريكية – الغربية، وضعف القدرة على فرض القرار والتأثير في مجريات الأحداث.
"اليوم لا "إسرائيل" كبرى من النيل إلى الفرات.. بعد الانسحاب من لبنان في 25 أيار2000 والانسحاب من قطاع غزة انتهى موضوع "إسرائيل" الكبرى.. هذه "إسرائيل" العظمى انتهت في 2006 مع لبنان وفي 2008 مع غزة وكل يوم هي تنتهي".. هذا واحد من أهم التحوّلات والخلاصات التي انتهى إليها السيد نصر الله، وهي نتيجة طبيعية لمعادلة بدأت تأخذ موقعها عملياً مع اعتراف مسؤولي العدو عقب هزيمته في عدوان تموز العام 1993 حيث بدأوا يتحدثون عن تآكل الردع الإسرائيلي، أما اليوم فبات من الطبيعي الحديث عن التفوّق في معادلة الردع لمصلحة المقاومة في لبنان وفلسطين، فحين يفقد أي طرف زمام المبادرة والفعل فهذا يعني أنه أصبح على خط الانحدار والزوال، وهذه هي حال "إسرائيل".
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024